كيف لم نتنبَّه لذلك، سواءٌ كقرَّاء عاديين، أو كنقَّاد أو كأصدقاء؟ كيف لم نتنبَّه إلى طغيان ثيمة الموتِ في شعر زكريا محمد؟ فهي لا تحضر فقط كجذر ثلاثي «م و ت » مع باقي مشتقاته المعجميَّة، وإنَّما في شكل صور يطلق عليها النَّاقد الفرنسي شارل مورون تسمية المجازات المستحوِذَة المؤسِّسة للأسطورة الشخصية. تكاد ترى الشَّاعرَ وقد اختار بضمير المتكلِّم أن يصوّر نفسَه ثمرةً نضجت للسقوط أو ثمرة في منقار غراب، روحاً هائماً بين النباتات والأشجار وحالَّةً في حبَّات الفواكه. كيف لم ننتبه إلى أنَّ زكريا محمَّد، منذ 2014، صارَ مهجوساً بمواضيعه الشَّخصيَّةِ، في أجواء عرفانيَّة يغلب عليها انسجامه مع الطَّبيعة المحيطة به في رام الله؟ ابتعد شعره عن كلِّ لعبة شكلية أو الانحياز إلى قالب شعري معيَّن، بحيث تخففت قصائده من العناوين، كما لو أنها تحاول استجماع مطلَقٍ، جوهريٍّ، يستعصي على أيِّ عنوان تسميته؛ مثلما تخلص من ثنائيات النثر/ الشعر، النظم/ التحرر من الوزن، وغيرهما من القوالب التي قد تأسَرُ شلالات صوره الهادرة؛ ليصف ما يكتبه بالـ «المَقاطِع » فحسبُ. وإذا تخلَّص زكريا محمد سريعاً من الخطابة والنبرة العالية التي تميّز جل الشعر الفلسطيني، لأسباب موضوعيَّة تهم قضيتنا المركزيَّة، فإنَّه لم يكن أبداً بعيداً عن صوت الشارع وهموم شعبه، بنقاءٍ وراديكاليَّة قلَّ نظيرها منذ موجات آمال وآلام الشعوب مع بداية 2011، ممَّا تسبَّب له في مضايقات بلغت حدَّ الاعتقال والتَّحقيق من قبل السلطة الفلسطينيَّة في رام الله؛ ناهيك بتصديه للبحث الأنتروبولوجي والقراءة في التكتيبات القديمة على الصخور لدحض ادعاءات الصهيونيَّة والاستشراق الاستعماري حول الإسلام المبكِّر وحول اعتبار فلسطين أرضاً توراتية للميعاد. فقدنا في جريدة «الأخبار » وفي القسم الثقافي خصوصاً، ركناً مهماً وصديقاً جميل المعشر؛ مثلما فقد العالم العربي شاعراً صافيَ القصيدة، بحَّاثةً مجدِّداً ومنقِّباً ومثقفاً من أنقى أبناء هذه الأمة. هنا مختارات من أعماله ونصوصه
مختارات

I. الجواد يجتاز إسكدار، 1994

1- الكوز
اكسر بعصاك
يا حبيبي
هذا الكوز الفخاري الهش: قلبي
أرق ماءه فوق التراب
أو ارفعه بيدك، يد الفلاح الخشنة، عالياً فوق رأسك
كي يتقطر ماؤه من بعيد في فمك
لكن حذار
أن تلمس بشفتيك فخاره الأحمر
فالموت
يا حبيبي
على فم الكوز
وفي ترابه المحروق.

■ ■ ■


II. أحجار البهت، 2008

1- المستقيم والدائرة
شجرة الخيزران تطلق ساقها
وتصعد به
لا يهمها الجذر
ولا الورقة
ولا المطر المتساقط
فكرتها هي الساق، هي الاندفاع إلى الأعلى
روحها عمود يصعد في السماء
لو كنت شجرة
لكانت فكرتي هي الدائرة لا المستقيم؛
أطلق سيقاناً تبدو كما لو أنها تخطّط لذهاب لا رجعة منه
لكنها تنحرف فجأة وتعود
من دون عودة تكون الحياة شجرة خيزران حمقاء
تطلق أنابيب فارغة
ويكون الموت بلاهة كاملة.

■ ■ ■


2- انتحار
ليس لأكياس البلاستيك الفارغة أجنحة كي تطير
لكنها تحاول الطيران بإصرار
الطيران حلم كل الكائنات الأرضية
غير أنّ اليأس لا الحلم هو ما يدفع هذه الأكياس إلى الأعلى
تنفخ صدورها باليأس
كما تنفخ ذكور ضفادع صدورها بالهواء
وتقفز كي تطير في السماء
يسقط أغلبها ويعلق بنبتات الشوك اليابسة
تمسك عيدان الشوك بالكيس وتحجزه، فيصيح:
اتركوني
أريد أن أموت
أريد أن أرمي بنفسي من أعلى عمارة في رام الله!
والناس تظل هنا ترمي بالأكياس
رغم أن التي تنجح في الطيران منها تهوي، في آخر الأمر، مثل عقبان منتحرة على رؤوسهم.

■ ■ ■


3- العار
ارحموا الموتى
دعوهم لحالهم
هم، لو تدرون، لا يطلبون قرابين لأرواحهم
فليست لهم أرواح
ولا يريدون كلمات على شواهد قبورهم
فهم لا يقرأون
ما يعذبهم أنهم غارقون
في عار يدعى الموت
إنه يسيل منهم
كما يسيل المخاط من أنوف الصغار
إن كنتم تريدون عونهم حقاً
اتركوا لهم لفة من ورق المراحيض وراء الباب
سوف يأتون بعد منتصف الليل
كي يمسحوا بها العار الذي يقطر من جباههم ومناخرهم.

■ ■ ■


4- صفقة
في الحديقة شجرة مشمش ميتة
تركناها واقفة
ثم زرعنا أسفلها
نبتة متسلقة
فغطتها الخضرة
من الجذع حتى الغصن
والآن
خضراء شجرة المشمش
حتى في كوانين
وهنا جوهر الصفقة:
الموت أخذ الجذر والثمرة
ونحن رضينا بالخضرة الكذّابة.
2001

■ ■ ■


5- الأغنية المرحة
إذا بدأ صباحك بأغنية مرحة وساذجة
وحاولت أن تنساها
فعلقت بك وكررتها إلى ما لا نهاية
فخذ حذرك
لأن الأمر مقلق وخطير
فهنا بالضبط،
هنا،
تبدأ العثرات والنوبات القلبية والطلقات التي تصفر خلف الظهر
فما الأغنية الصباحية المرحة
سوى اللمسة الأخيرة في الكمين
آه، لا تستهن أبداً بأغنية الصباح
كما استهان قيصر بالنبوءة العابرة عن الخامس عشر من آذار المشؤوم
فالموت ذاته يكمن خلف هذه الأغنية.

■ ■ ■


6- الموت
الموت، أيضاً، لا نفع فيه
لأنه يقف بسكّته على رأس الثلم
ويصرخ ببغاله ويمضي:
ثلمه لا يتوقّف أبداً
وبغاله لا ترتد.

■ ■ ■


7- ألم
ألمي إبريق
على طاولة
وعصاي ليست معي
لأهشمه.

III. كشتبان، 2014
حصاة الموت تحت لساني. لكنني أسمعكم. أسمع غناءكم الخافت، وأسمع نحيبكم. لكن ما يؤلمني هو أن تتركوا أشياءكم على المنضدة. لا تتركوا شيئاً على المنضدة. فعيني ستعلق به. لا تتركوا حبة علكة حتى. فمن حبة علكة يمكن تخيل عالم بأكمله. وأنا لا أحتمل هذا. فلكي أتخيل عالماً، عليّ أن أصفه. وأنا لا أقدر على الوصف، فحصاة الموت تحت لساني. ولا تتركوا المبراة على المنضدة أيضاً. أقلامي كلها مدرومة. وأنا لا أريد أن أبريها، لأن الكلام محظور عليّ بعد أن وضعت حصاة الموت تحت لساني. يمكن لكم بالطبع ترك غزال من نحاس على النافذة. فهذا لا يقلقني. بل إنه ليعزيني أن أرى بخار الشتاء، حين يحل الشتاء، يتصاعد من أنفه. ولا يستطيع الموت أن يمنعني من البخار الصاعد من أنوف غزلان النحاس. ثمة شيء أخير: لا تقفلوا الحنفية. دعوها تقطر. الدبابير ستقف على فمها وتشرب. وحين تطير ستنثر بأجنحتها رذاذ الماء على وجهي. أنا أسمعكم. اسمع طنين أجنحة الدبابير في نوافذكم.

■ ■ ■


أفكر كلّ صباح بأن لا أنهض من موتي. لكنّ أمرين يكسران فكرتي: الكلب ونبتة الكبّار. علي أن آخذ الكلب في جولة الصباح، وأن أشهد الموجة الجديدة لأزهار الكبّار. أترون؟ الأشياء الصغيرة هي التي تجعل الإنسان يفيق من الموت. وأنا ربطت يدي بطوق الكلب. ربطت زهرة الكبّار خيطاً على إصبعي، خيطاً على خصري. ولا كلمات عندي كي أصف لكم. الوصف هو الظل، والسكوت هو الأصل. أنت هو الأصل يا من يسقي أحواض النعناع قدام البيت، وأنا ظلك. أنا ظلك وظل النعناع. أقعد لك على الحجر منتظراً هبة من ريح نعناعك، ومنتظراً نهاية الصيف أيضاً. لكن الصيف يرسخ نفسه كأنه سيقيم هنا إلى الأبد. والمطر مجرد ذكرى يابسة لا تؤكل. غداً لن أنهض عند طلوع الشمس من فراشي. الكلب سينتظر طويلاً عند الباب، ولن يفهم ما جرى وزهرة الكبّار ستفلت خيطها الزهري عن إصبعي... غداً.

■ ■ ■


أستطيع أن ألدك لو أردت. أن ألد يدك وفمك. وأستطيع أن أخنقك بحبل السرة أيضاً. وأغرب ما حصل لي أنني ما زلت هنا. لم يكن هذا متوقعاً بالمرة. كان يجب أن أمضي منذ وقت بعيد. غير أنّ خنق الناس بالمناديل شغلني عن الرحيل. ويا لها من شغلة! أستطيع كذلك أن أقلب الأمر وأن أسقط من رحمك لو أردت. لكنّ تكرار الولادة والموت أمر قاس على قلبي. لذا أكتفي بعبور أنبوب من قصب الخيزران. الحياة أنبوب؛ الميلاد من هذا الطرف والموت من هذاك. والأمور تتعقد عليّ، وأخسر كل ما راهنت عليه؟ سأرمي، إذن، زهرة النرد الأخيرة. وماذا يسمون من يرمي رميته الأخيرة؟ ليس له اسم؟ أنا سأسميه. اسمه فستقة. أنا فستقة، ويدي ترمي بزهرتها الأخيرة.

■ ■ ■


أنت رسالة في بريدي، وأنا لا أفتح رسائلي، لأنه لا أمل في أي بريد. وأنت أيضاً سكين في يدي، لكنني لا أقطع بها معصمي لأن الأرض تمجّ الدم. وأنت تريد جرّي بالمحبة إلى بيتك، مثل نملة تجر حبة قمح إلى بيتها. غير أنني أخبئ حبة قمحي في يدي، ولا أترك لعينك أن تراها، لأن المحبة أخت الموت.

■ ■ ■


كوّرت كفيّ وجعلت منها حفرة صغيرة. يمكن لي أن أجمع في هذه الحفرة ماء المطر وأن أبلّ شفتي. كما يمكن أن أخبئ في دفئها فراشة. لكنني اخترت أن تكون الحفرة عشا للموت. أضع فيها كسرة خبز، وأنادي على الموت: تعال يا عصفور الموت، خبزتك هنا في كفي. تعال، حفرة صغيرة تكفي لي ولك.

■ ■ ■


أنام بلا ندم. أطفئ عينيّ كما تطفئ سيارة ضوءها، وأغطي نفسي وأنام. ولا تأتيني الأحلام لتنام مثل قطة تحت دفء قدميّ. كما لا تأتي الكوابيس أيضاً. الكوابيس تعني أنك هنا. وأنا لست هنا. أنا لم أكن هنا أصلاً. ولا يهمني أي شيء. لا الثلج ولا الشمس ولا الشفة التي تقطر عسلاً. يهمني فقط أن أعبر إلى النوم. وحين أصحو، فأنا أصحو فقط لأن «شاحن» النوم قد خلص. ثم أمضي النهار كله وأنا أشحن نفسي للنوم من جديد. النوم هو الفكرة الوحيدة التي أسيطر عليها. وهي فكرة تقترب من حدود الموت.

■ ■ ■


سأدعو الجميع إلى حفل الموت الكبير: الحصان، والنخلة، والكشتبان، والوتر الخامس للعود، والنهر الذي لم يسبح فيه أحد مرتين. كل هؤلاء سيحضرون. أما الحصان فسيقف على قوائم ثلاث، ويعلك شكيمه صامتاً. فالحصان هو الكائن الوحيد الذي يصدع راضيا بأمر الموت. إنه في الحقيقة صهوة الموت. ولكي نحتمل الموت سأجعل له ظلاً كظل الشجرة. فالشجرة تنشئ ظلها كي يتحمل معها عبء الوجود الثقيل. وسيعبر الجميع تحت ظل الموت: الريح والنخلة والنهر والوتر الخامس للعود. ثم ستصبّ الخمر- وسوف تكون وفيرة- ويقطع لكل واحد أكحله، ويشرب خمرته في كشتبانه الكبير، لكي يختلط الخمر بالدم، والدم بالخمر، ويدفقا معاً من الأكحل المقطوع.
ولن يفترّ أحد عن سنّ، فهذا حفل نواح. فالنواح هو المعجزة الوحيدة التي بين أيدينا في حضرة الموت.

■ ■ ■


أريد أن أرحل بقدم حافية إلى الأرض البيضاء، أرض الثلج
الجلاجل ترنّ في سوالفي
الريح الصعبة تفكّ زنّاري
والبرص يأكل كفّي.
أريد أن أرحل إلى أرض الجنوب، أرض النار
الحريق يشعل رأسي الأجعد
الطبول تكسر قلبي
والفحم ينهش أصابعي.
لا، لا
أريد أن أموت في الاعتدال الخريفي
قبل أن تغور الثريا
وحين تسقط حبات المطر الوسمي
ثم...
يطوي العذاب جناحيه.

■ ■ ■


الرب يزرع باليمنى
ويحصد باليسرى.
الرب لا يزرع ولا يحصد
يترك الزرع للزارعين.
أما هو فيكتب ويمحو فقط:
يكتب باليمنى
ويمحو باليسرى.
ما من زرع ولا حصيد أصلاً.
الموت فقط يجزّ النواصي:
يسفع باليسرى
ويجزّ باليمنى
ويبكي.
الموت أمّنا، أمنا البكّاءة
تأكل، كالقطة، أولادها وتبكي.

■ ■ ■


الحياة درب
والأيام نخيل على جانبيه.
كل يوم نخلة رطبها في عراجينها.
لكن، لا وقت عند المسافر
للرطب الذي يتساقط مع كل هبة ريح.
فقد ضرب موعداً مع الموت
وهو يركض كي لا يفوته.
وكما تدرون
ففم الموت لم يعلك تمرة حلوة أبداً!

■ ■ ■


IV. علندى، 2016
لي صديق يأتيني في المنام، فأسأله: أين أنت؟ ولم غبت هكذا عني؟ فيبتسم ولا يجيب. ابتسامة فوق اللغة. وحين أراها يطمئن قلبي. لكن حين أصحو أكتشف أنه مات منذ ثلاثين عاماً. في كل مرة يحدث هذا. في كل مرة أكتشف موته من جديد. ليس ثمة موتى في المنام. ليس ثمة فقدان. ما تفقده في اليقظة تعثر عليه في النوم. من أجل هذا يظلّ النوم مُتعتي. هناك أناس يذهبون إلى النوم آسفين. أنا أمضي إلى النوم كأنني أعود إلى بيتي، كأنني أذهب إلى الحقل. لي صديق يجري مثل النهر. أنا على الضفة، وهو يتدفّق تحتي. لا أستطيع أن أوقفه، ولا أن أسبح فيه. إلى أين تمضي؟ أقول له. تعال نستيقظ معاً، تعال. حوّل مجراك كي يتدفق تحت عتبة يقظتي. لكن هذا لا يحدث أبداً. هناك رافد كبير يتدفق في نومي. يد النهار القصيرة تفشل حتى في أن تغرف لي غرفة واحدة من مائه، وتسقيني.

■ ■ ■


باكراً نوّر العيصلان. وفى بوعده قبل موعده. نوّرت عصا الخريف. ازرعوا في الطريق نخلة، وفي الحوض بقلة. فالموت سلالة ضعيفة. الموت خرافة. أنا في البستان والنخلة عمّتي. أنا على حصاني، والشمس عمّتي. لا تقولوا لي إن الخريف يولد أعمى. الخريف يبصر بعينين من ياسمين أزرق. واسمعوا الخبرية: حين يتأخر الخريف أحلّ أنا محله. فأنا كاهنه. أنا نافخ بوقه. بخاتمه أختم قطن الغيمة وصوت اليمامة والزوبعة. أعدكم أنّ تشرين سيغسل بالمطر غرركم... أنه سيمسح بكفه ذلّتكم. نوّر العيصلان. نوّر الماء. نوّر شفتيَّ. الليلة تُعطى للحبيب عصمته، وللعابد الحزين كعبته.

■ ■ ■


فتحت فمي، مثل موسى الطفل، ومضغت الجمرة. سوف ألثغ بعد اليوم بالحرف. فمي سيغلط باسم الزهرة، ويدي ستخطئ الثمرة. لذلك سأستند إلى الصرخات. لي صرخة طالعة من أعماق الكهوف. سأطرد بها الحياة والموت معا. سأجري وراءهما كأنني أجري وراء ماموث. عيناي حيتان مترحّيتان. وشعري يتهدل مثل شعور الغيلان. أمنّ بالخبزة على الحياة، وأمنّ بالصرخة على الموت. وعند الشدة أكشف للسماء رأسي. الموت أرحم حين تسقط نجمة على رأسي. حين تكسر فأس رهيبة كأسي.

■ ■ ■


وضع رأسه على المكتب ومات. لم تكن هناك مقدمات. لم نسمع موسيقي غامضة تحذرنا بأنّ شيئاً ما سيقع. كنا نتسلّى بالكلمات المتقاطعة، ثم حدثت ضجة، فنهضت كي أبصر موته. على مكتبه كانت قطعة كعك، وفنجان قهوة. لكن لم يكن من أثر للموت. غير أنه كان ميتاً. ميتاً حد أنني خفت أن أناديه باسمه. بدا كما لو أنه فقد اسمه. الإنسان يتخلى عن اسمه عند الموت. يسلّمه كأنه عهدة في ذمته. مرتان يكون اسم الإنسان عدواً له: مرة عند الولادة، ومرة عند الموت. عند الولادة يكون قماطاً يقيده، وعند الموت قماشة تكفّنه. فكرت في أن أمسك بجمته، وأن أرفع رأسه، ثم أصفعه على خده كي يصحو. لكن كل شيء حولي كان يأمرني بالهدوء، ويجعلني أحتفظ بيدي في جيبي. ثمة سوء فهم عظيم بيني وبين الموت. حاولت مرات كثيرة أن أمد الحبل بيني وبينه، لكن شيئاً ما كان يقطعه. لم أستطع أبداً أن أبتلع الموت. وهو أيضاً لم يكن قادراً على ابتلاعي.

■ ■ ■


الزنبقة كيان ضار. لها وجود ثانٍ بين الرّصاص والزئبق. بين الكثافة وبين ما هو أكثف منها. جرّبت يوماً أن أصنع من اللغة رفّاصاً، وأن أجعل الزنبقة مثلاً. جرّبت أن أموت في حضن اللغة. لكنني تخلّيت عن هذا. اليوم ضريحي خارج الكلمات. أنا كائن هجين، ولي ضريح بقبّتين.

■ ■ ■


V. زراوند، 2020
أدرْت ظهْري للْحقيقة، ومددْت يدي للْعراجين. ولسْت أدْري إنْ كانت الْعراجين نسْياناً أمْ ذكْرى. إنْ كانتْ نوْماً أمْ موْتاً. لكنّني مددْت يدي إليْها. مددْتها في أيْلول والشّمْس تعْجن عجينها في قصْرها الْكبير، وتغنّي. كانت الْعراجين دوْماً كاهنتي، وكان الشّعْر آفتي. أمّا الْموْت، فسوْف أتْبعه حين ينْفخ شياعه كأنّني نعْجة في قطيع نعاجه.

■ ■ ■


قطعت الشّجرة، وهوتْ على الْأرْض. صارتْ حطباً. لكنْ، حين أدرْت ظهْري ومشيْت كانت الشّجرة ما زالتْ خلْفي. وكان النّسْغ يصْعد كيْ يغذّي أغْصانها في الْأعْلى. ليْس هناك فراغ في الطّبيعة. فالذّكْرى تمْلأ كلّ شيْء. ثمّة شجرة أخْرى بجذْع أشدّ صلابة مكان الشّجرة السّاقطة، هي شجرة الذّكْرى. ثمّة باب آخر للْحياة لا يعْرف عنْه الْموْت، ولا يسْتطيع أنْ يأْتي منْه.

■ ■ ■


أنا الْغرّ كتبْت مقْطوعة قصيرة. ثمّ لمْ أدْر بعْدها ما أفْعل. أردْت أنْ أغيب وأنْ أحْضر، أنْ أموت وأنْ أحْيا. الْحيْرة مقْطوعة قصيرة، والنّهار أقْصر منْها. حبق على النّافذة، وحريق على وجْه الْماء. وأنا غرّ، والْكلّ يهْزأ منْ كلماتي. ارْفقوا بي. لا تكْسروا صنم الصّلْصال الّذي غنّى لي، وغنّى منْ شفتي.

■ ■ ■


كأس الموت مليئة فوق الطاولة، والكل يدير وجهه عنها. غير أنّ الكأس الطافحة ستشرب في النهاية. ستشرب ثم تملأ من جديد. فحين يتعلق الأمر بالموت ليس هناك كأس فارغة. كأس الحياة نصف مليئة نصف فارغة. أما كأس الموت فطافحة دوماً. وضعت يدي على الصخرة، فشربت الصخرة من دمي. وضعت فمي على ثقب القصبة فغنّت القصبة في فمي. وفي الحلم تعلّقت ببالون كبير أحمر، فصعد بي في السماء المُشمسة. صعد بي كما في قصص الأطفال. والمقصد: هناك بالون أحمر في السماء، وكأس مريع على الأرض. ومن هنا، من هذه النقطة، حلّق الصقر، وفي هذه النقطة كسر جناحه أيضاً. الله لا يعرف شيئاً عن هذه المعضلة، عن ألمنا الكبير وعن متعنا. فرق كبير بيننا وبين الله. خرق كبير بيننا وبينه.

■ ■ ■


VI. تمرة الغراب، 2022
صاح الموت: أنا من كسرت الإيقاع، وكتبت على الصخرة رجزاً لا يفهم.

■ ■ ■


لا يستطيع الموت أن يفتح قبضتي حين أغلقها، وهو لا يسكن كأسي، ولا كأس الزهرة.

■ ■ ■


أدخل إلى حوائط أصدقائي الموتى صباحاً، فلا أجد بوستات جديدة. لقد توقفوا عن الكتابة. وتوقف الجميع عن المرور على حوائطهم.
الفارق بين الحياة والموت هو البوستات. لذا لن أترك حائطي فارغاً عند موتي. سأكتب بوستات احتياطية تكفي لثلاثين عاماً أخرى على الأقل. وسأكتري أحداً كي يرمي على حائطي بوستاً أو بوستين كل صباح. فأنا لا أثق بالأبناء بهذا الخصوص. الأجراء خير من الأبناء. وسيظل حائطي منيراً مثل شرفة تطلّ على نجمة القطب. وهناك من يسألني: لكن ما الذي يفعله الموتى إذا كانوا لا يكتبون بوستات صباحية أو مسائية؟ يأكلون لهب الشموع يا صديقي. يفطرون على الشموع ويتعشّون. مثلاً: صديقي سمير سلامة تعشّى أمس خمس شمعات. التهم لهبها كما لو أنه عظّاءة. أما صديقي رسمي أبو علي، فقد أكل الضوء الفسفوري لخمسين يراعة. كان جوعاناً برداناً. فهناك فصل واحد في الموت: الشتاء. وهي تمطر وتمطر. المطر يرنّخ كل شيء: الوسادة واللحاف والكوفية والجراب. وفي السماء نجوم قليلة جداً. هناك على الأخص شمعدان كوكبة الثريا. لكن الموتى يصعدون السلالم كل ليلة إليه، ويلتهمون شمعاته السبع النوّاسات. أدخل إلى حوائط الموتى، فلا أجد أحداً مرّ عليها. ذهب الجميع إلى شؤونهم. ولم يبقَ إلا الصمت يمسح الزجاج بورق الجرائد القديمة، وإلا الريح تجمع بمقشتها أوراق التين اليابسة. لا أثق بالأبناء. لا أثق بالجينات. وعند موتي سأكتري عاملاً ينشر بوستاتي على حائطي. وستكون هناك قلوب حمراء على كل بوست. ولن أكون عظاءة تأكل الشموع ولهبها أبداً.

■ ■ ■


كلام الموتى أشد عمقاً من كلام الأحياء.

■ ■ ■


سوف آخذ الموت إلى شقّتي، وأغتصبه. ليس لديّ مكان أنسب من هذا. وسوف أتحدث عن الموت حتى يُغمى عليّ. ليس هناك من طريقة أخرى عندي.

■ ■ ■


لا أريد أن أموت قبل أن يمتلئ رأسي بأسماء الزهور. سآخذها كلها معي. وإن سهوت عن واحدة فسأعود أدراجي، وآخذها.
سأجعل الموت مهرجان زهور وعطور.

■ ■ ■


هناك نسخة أكثر أصالة من كل شيء. هذه النسخة تدعى الذكرى. وهي تعبُر من باب سري لا يعرفه الموت.

• نصُّ الرَّحيل: آخر نص لزكريا محمد على صفحته الفايسوكية
قطعت علاقتي بالصيف نهائياً. لا أريد فواكهه جميعاً. لا أريد فواكه هذا الجحيم. حين يأتي في العام القادم سأحمل حقيبتي وأرحل إلى بلاد الشتاء والثلوج.
(*) عنوان المختارات سطر من ديوان «كشتبان » ـــ 2014