مع دخول منصات التواصل الاجتماعي «عصر الفيديو»، وتربّع تطبيق تيك توك على قمة هذه الفئة، حصل انقسام بين شعب الإنترنت تجاه المحتوى الموجود عليه. الموجة الأولى من مستخدمي تيك توك كانت عبارة عن أفراد يرقصون أو يؤدون تحديات أو حركات مضحكة. ومع تعاظم شهرته وانتشاره ودخول فئات أخرى منوّعة، استحالت هذه المنصة فضاءً رقمياً يحوي كل شيء، من شروحات حول الفيزياء والفضاء يقدّمها مختصون، إلى أساليب يعتمدها بعضهم في إطالة الشعر أو اختصاصيين ينفّذون ديكوراً لمنزل ما أو ما شابه. عملياً، تحوّل تيك توك وخلال فترة قصيرة، إلى منصة يبحث المستخدمون عبرها عن أشياء قد تفيدهم في يومياتهم. فما الذي يميزه؟ وما هو المحتوى الذي تفضله الخوارزميات؟


تيك توك تطبيق قام بتنزيله أكثر من ملياري شخص حول العالم. يستخدمه 1.6 مليار شخص، منهم مليار مستخدم نشط شهرياً. واللافت في الأرقام التي يقدمها تقرير OBERLO، أنه في عام 2022، أمضى المستخدم معدّل 52 دقيقة يومياً على تيك تويك، في مقابل 46 دقيقة يومياً على يوتيوب. الحديث هنا إذاً، عن منصة استطاعت خلال سنوات قليلة أن تتفوق على عملاق منصات الفيديو، وتصبح حالياً قوّة ثقافية عالمية.
تعاظمت شعبية تيك توك لأسباب عدّة، أبرزها التنسيق المتفرّد لمقاطع الفيديو القصيرة، ما سمح للمستخدمين بإنشاء واستهلاك المحتوى في أجزاء صغيرة الحجم. أدى هذا النهج المميّز إلى تغيير طريقة تفاعل الأشخاص مع وسائل التواصل الاجتماعي، ما جعلها سهلة الوصول وسريعة ومسببة للإدمان. وحاولت منصات أخرى تقليد هذا الأمر، مثل يوتيوب عبر الـ Shorts وفايسبوك عبر الـ Reels. لكن فعلياً، العمود الفقري الذي جعل تيك توك على ما هو عليه، هي خوارزميته المميّزة والمختلفة عن سائر منصات التواصل الاجتماعي. ومن خلال فهم ما تفضله هذه الخوارزمية، يضمن صانع المحتوى الحصول على الشهرة.
قد تبدو الخوارزمية كلمة معقدة أو صعبة الفهم، لكنّها في الواقع بسيطة، وتعني الخطوات التي يجب أن تقوم بها البرمجيات لمعالجة أمر ما. وعلى سبيل المثال، إن كنت تصمّم روبوتاً وتريده أن يلتقط كوب ماء عن الطاولة، فالخوارزمية هنا تكون كالتالي: «على الروبوت أن يتأكد بأنّه لا يحمل شيئاً في يده. ثانياً أن يمد يده إلى الكوب. ثالثاً أن يلتقط الكوب». وبهذا بات لدينا خوارزمية لالتقاط الكوب. وكذلك الأمر بالنسبة إلى منصات التواصل الاجتماعي: هناك خوارزميات تحدّد المحتوى الذي سيصبح منتشراً أو ذاك الذي تفضله عبر الانتباه لكيفية تفاعل المستخدمين معه.
هناك عوامل عدّة تؤثّر على كيفية تقديم خوارزمية تيك توك المحتوى الذي ينشئه صانع المحتوى للمستخدمين. وأهم الأشياء التي تؤثر على عرض الفيديو لجمهور أوسع، هي: نسبة التفاعل، ومعرفة الجمهور، والموضوع، والبحث عن الترند الحالي.
كلّما زاد التفاعل والمشاهدات التي يتلقاها فيديو على التطبيق، زادت احتمالات تقديمه لجماهير أكبر. والتفاعل يكون عبر الإعجابات والتعليقات والمشاركات وإعادة المشاهدة وقيام المستخدم باللحاق بالحساب. مثلاً، يلجأ بعض صنّاع المحتوى إلى إنشاء فيديو ينتهي بجملة يتم إكمالها عندما يبدأ عرض الفيديو من جديد. وهذه حيلة ممتازة لجعل المستخدمين يعيدون المشاهدة، بالتالي تفترض الخوارزميات أن الفيديو يمكن عرضه لجمهور أوسع.
تتعرّف الخوارزمية إلى إعدادات جهاز المستخدم بما في ذلك الموقع الجغرافي واللغة، عند تحديد من قد يكون مهتماً بمقطع فيديو. وتشمل هذه موقع الإرسال واللغة ونوع الجهاز المحمول. ويلجأ بعضهم إلى تغيير الموقع الجغرافي على جهازهم كي يستهدفوا جمهوراً معيناً.
من مميزات تيك توك تصنيف المحتوى بناءً على اهتمامات المستخدم. لذلك، يعد موضوع الفيديو عاملاً مهماً عندما يتعلق الأمر بالوصول إلى أوسع جمهور ممكن. وتحاول الخوارزمية فهم نوع المحتوى من خلال الكلمات الرئيسية الموضحة في العنوان، ونوع الموسيقى المستخدمة، والهاشتاغات، ونوع الفيلتر والمحتوى، من خلال عرض النص (Script) على الفيديو. وبالتالي، الانتباه إلى تلك التفاصيل يساعد في إيصال الفيديو إلى الجمهور ذي الصلة.
تقدّم مواقع إلكترونية عدّة بشكل مفصّل أنواع الترند المنتشرة على التطبيق. كما تقدّم نوع الموسيقى أو الفيلتر. بالتالي، مراقبة هذه الأمور وتقديم محتوى مطابق لها من ناحية الفكرة، ومختلف من ناحية العرض، يضمن وصول الفيديو إلى جمهور واسع.
من المهم الإشارة إلى أنّ خوارزمية تيك توك لا تهتم إن كان لديك عدد متابعين كبير أو إن كانت فيديواتك السابقة قد حصلت على نسبة مشاهدات كبيرة. بالتالي، حتى لو كان لديك عدد ضئيل من المتابعين، فأنت تتمتع بفرصة عادلة في أن تصبح شهيراً.
كذلك، لا تفضّل الخوارزمية الفيديوات التي تحتوي على حركات خطيرة، ومحتوى جنسي واضح، ومنتجات التبغ والكحول، ومحتوى عنفي أو مضلل، ومحتوى غير أصلي (مسروق من حساب آخر)، ومحتوى منخفض الجودة، ورمز QR.
تعدّ تجربة شوقي عطية لافتة في المجال المعرفي على تيك توك. في حديثنا معه، يقول الأستاذ الجامعي والباحث في مجال الديموغرافيا الذي تقدم صفحته (ch.attieh@) محتوى جذّاباً، وإن في إطار غير تقليدي أحياناً، إنّه من السهل الحصول على المعلومات التي ينشرها بشكلها الخام، لكن من الصعب جداً استخلاص النتائج منها، مثل إحصاءات حول أسماء المواليد وأسماء العائلات الأكبر في لبنان. «أقدم معطيات إحصائية عن الأسماء بطريقة قد لا تخطر في بال أحد مثل أكثر الأسماء انتشاراً وفق الطائفة أو المدينة أو المنطقة أو الجنس أو حتى سنة الولادة». ويتابع: «لأنّني أعتقد أنّ العلم والمعرفة للجميع، وضعت رابطاً في صفحتي، على تيك توك أو فايسبوك، لجميع كتبي أو مؤلفاتي التي يحقّ لي التصرف بها ووضعتها في متناول الجميع».
«تيك توك» قائم على الاهتمامات في حين أن فايسبوك قائم على دوائر المعارف


بدأ عطية رحلته مع تيك توك منذ مرحلة الحجر الصحي أيام الوباء، كوسيلة لتلقي المعلومات والترفيه السريع، ولكن «لفتني كم المحتوى السطحي مقارنة بالمحتوى المعرفي»، غير أن الدافع الأساسي له كان كمّ المعطيات غير العلمية التي انتشرت خلال الأشهر الماضية على وسائل الإعلام، وخصوصاً في مسألة ديموغرافية النزوح السوري في لبنان، وهو «موضوع كنت قد كتبت فيه ورقة بحثية قبل خمس سنوات نبهت فيها إلى ما نحن فيه اليوم، وما الذي سنكون فيه مستقبلاً».
يوضح الأكاديمي أنّ أول فيديو له حصد انتشاراً، تناول «العوامل المؤثرة في خصوبة النازحات السوريات في لبنان: الحلقة الأولى (المجتمع الزراعي) حيث وصل إلى 80 ألف مشاهدة في يومين». كما «رفعت مقاطع تتحدث عن أمور هامة جداً في الصراع الديموغرافي الفلسطيني ــ «الإسرائيلي» إلا أن الفيديو لم يصل إلى أحد». وهنا، «خطرت لي فكرة أن أستخدم معطيات الأسماء التي أعمل عليها منذ فترة طويلة، وكانت المفاجأة حين وصل الفيديو الأول إلى أكثر من 100 ألف مشاهدة في أقل من 24 ساعة وهو اليوم على عتبة المليون مشاهدة».
علماً أنّ عطية لا يدعي خبرة كبيرة في مجال النشر على المنصة، إلا أنه متنبّه إلى مسألة أساسية، وهي أنّ تيك توك قائم على الاهتمامات، في حين أن فايسبوك قائم على دوائر المعارف. وبالتالي يمكن أن «يصل محتواك إلى أقصى بقاع الأرض».
وبالنسبة إلى التنمر الرقمي، يقول إنّه تعرض إلى كم من التعليقات المسيئة، التي تسخّف المحتوى أو تشكك بصدقيّته، وصولاً إلى الشتم. لكنه يتعامل معها بطريقتين: «المسيء بغير الشخصي أتجاهله أو أحذفه إذا كان مهيناً. أما التعليق المهين الذي يحتوي على شتيمة أو تحريض على الآخرين، فأحذفه وأحظر صاحبه مباشرة».
وينصح شوقي عطية كل من لديه فكرة محتوى قيم وهادف وعلمي أو عملي، ألا يخاف من هذه التجربة. تيك توك منصة مثل كل زميلاتها، ولصنّاع المحتوى دور أساسي في تحويلها إلى منصة جادة بعيداً عمن يلقي الطحين على رأسه أو يكسر بيضة بين عينيه.