لا شيء عادياً مع ترامب. رئاسته لم تكن عادية، خسارته عام 2020 لم تكن عادية، مشاكله القانونية غير عادية، حتى شخصيته الشعبوية قادرة على الوصول إلى عقل وقلب الأميركي العادي من جهة، ومن جهة أخرى براغماتية تحب إبرام الاتفاقات مع أكبر الشركات أو الرؤساء. هو حالة لا يمكن نكرانها أو تخطّيها. قد تحبّه أو تختلف معه، لكنّه عصارة ثقافة البوب. هو أغنية لمايلي سايرس وإعلان لـ«ماكدونالدز» وشاحنة أميركية فارهة في الوقت نفسه. كلّ هذه الأمور وغيرها، تجعله عرضاً لا يمكن تفويته!المقابلة مع تاكر كارلسن أتت تتويجاً لأمور عدّة حصلت خلال الأشهر الماضية. بدايةً، استحواذ إيلون ماسك على منصة تويتر، ومن ثم قيامه بتعديلات جذرية من خلال إعادة حسابات أقطاب اليمين والمؤثرين «الترامبيين» إلى المنصة. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنّه بعد غياب ترامب عن منصة تويتر، بدايةً عبر إغلاق حساباته من قبل منصات التواصل الاجتماعي كلّها، ومن ثم عدم اكتراثه بالعودة بعدما أعاد إيلون ماسك تفعيل حسابه على تويتر، غرّد ترامب للمرة الأولى على المنصة بعد حوالي السنتين، يوم الجمعة الماضي، ناشراً صورته التي تم التقاطها في سجن مقاطعة فولتون في أتلانتا (ما يُعرف بالـ Mug Shot)، حيث تم احتجازه بتهمة التآمر لإلغاء نتيجة انتخابات جورجيا لعام 2020 يوم الخميس الماضي. الصورة التي علّق عليها ترامب بـ«لن أستسلم»، باتت أيقونة حملته الانتخابية الرئاسية وانتشرت على منصات التواصل بشكل هائل، إذ تظهر على وجهه ملامح الغضب.
ثانياً، قيام ماسك بإبداء آرائه السياسية والثقافية التي تُعدّ أساس الانقسام الكبير في الولايات المتحدة، أمام متابعيه على تويتر الذين يفوقون الـ 130 مليوناً. من بين تلك الأمور على سبيل المثال، إعادة نشره لفيلم ?What Is a Woman (إخراج جاستن فولك ــ 2022) الذي يدعو بشكل واضح إلى مناهضة أفكار النوع الاجتماعي. برز ماسك كأهم قطب محافظ شاء ذلك أم أبى. ولديه منصة تواصل يديرها كما يهوى. لكن، دائماً ما تكون الحقيقة خَفيّة في عباءة الأيديولوجيا. في حالة إيلون ماسك، الرجل توسّل إلى ترامب أيام رئاسته لمساعدته وإلّا أفلست شركاته. كرّر ترامب القصة أكثر من مرة خلال حملاته الانتخابية، قائلاً إنّه أتى راكعاً أمامه ليساعده. وعندما لم يستطع ماسك شراء تويتر في المرّة الأولى، قال ترامب إنّ رجل الأعمال الجنوب أفريقي رجل عبقري، «لكنّني قلت له إنّك لن تستطيع فعلها» (شراء تويتر). تحدّاه علناً أمام الناس وأعاد ترداد كيف ساعده قبل إفلاسه. الأمر الآخر بالنسبة إلى إيلون ماسك أنّه رغم أنّ علاقته كانت ممتازة مع الرئيس الأسبق باراك أوباما، إلا أنّ دعوة إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، غالبية شركات السيارات الكهربائية إلى البيت الأبيض من دون «تسلا» التي يملكها ماسك، عزّز موقفه القريب من ترامب. علماً أنّ مشكلته مع الحزب الديموقراطي تعود إلى كونه كارهاً للنقابات، وهذا ما يتناقض مع توجّهات الجناح التقدّمي في الحزب. ومن هنا، نفهم معاركه على تويتر ضدّ كل من بيرني ساندرز وألكساندريا أوكاسيو كورتيز (AOC).
مريدو ترامب يحبّون كارلسن لأنّه خارج منظومة «الإعلام المزيّف»


بالنسبة إلى تاكر كارلسن، المقابلة كانت أكبر أصبع أوسط استطاع رفعه في وجه المحطة التي طردته: «فوكس نيوز». بعدما كان برنامجه من أشهر ما تقدّمه القناة مشاهدةً. يقول كارلسن إنّه كان من مؤيّدي ترامب سابقاً، لكنّ أحداثاً كغزوة الكابيتول في السادس من كانون الثاني (يناير) عام 2021 ورؤيته لمجموعة من الفيديوات التي أُرسلت له وتؤكد وجود «مكيدة ضد ترامب» بحسب زعمه، بالإضافة إلى يقينه ومعرفته بأنّ الانتخابات الرئاسية السابقة مزوّرة، كلها أمور جعلته «يستيقظ»، على حدّ تعبيره. مريدو ترامب يحبّون كارلسن. بالنسبة إليهم، هو خارج منظومة «الإعلام المزيّف» كما يصفها ترامب. هو الإعلامي الذي لفظته الـ«إستابلشمِنت» لأنّها لم تعد تتحمل وجوده وآراءه. هو الذي يتحدّث لغتهم، والذي تسري شائعات (وتمنيات) حوله تفيد بأنّه قد يكون خيار ترامب كنائب له خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2024.
كل تلك الأمور أوصلت إلى متابعة ترامب عوضاً عن المناظرة بفارق 200 مليون مشاهدة حتى كتابة هذه السطور (250 مليون مشاهدة لترامب على X في مقابل 50 مليوناً لمناظرة «فوكس»). هو عالمٌ جديد. انقسامات كبرى وصلت إلى التكنولوجيا نفسها. منصات تنقلب من اليسار الليبرالي إلى اليمين، وأخرى نسخة عنها تنشأ على قيم الحزب الديمقراطي مثل ثريدز. قنوات يوتيوب مخصّصة لنقل حملات ترامب فقط، يشاهدها الملايين بشكل مباشر. ذكاء اصطناعي عليه فلتر القيم الليبرالية مثل «تشات جي بي تي»، وآخر منافس محافظ يقوم إيلون ماسك ببنائه عبر شركة xAI. انزياحات كبرى وهجرة رقمية للمستخدمين. الجيل الجديد انتقل من وسائل نقل المعلومات القديمة إلى وسائل أحدث وأسرع، تروي بصره وسمعه في الوقت نفسه. جمهور لديه الوقت للاستماع إلى بودكاست مدّته ثلاث ساعات لجو روغن، يتحدّث فيه مع ضيوفه عن الدولار والكائنات الفضائية والسحر والمستقبل، لكن لا قدرة له على مشاهدة برنامج سياسي مُعدّ بالطريقة التقليدية مدته ساعة. مستقبل محطات التلفزة غير واضح، ويمكن لنا رؤية تخبّطها، إذ تحاول استقطاب مؤثّرين وصنع برامج بودكاست على الشاشات. وهذا دليل عدم فهم للمشكلة الأساسية، وهي أنّ الجمهور صار على الـ«ويب». في تلك البيئة التي نشأ عليها، وبات يعرف ويتوقّع كيف تتحرك الأشياء فيها، لا يمكن إثارة اهتمامه بالعقلية البائدة. قواعد العالم القديم انتهت!