لسنا مغرمين بالأفلام والمسلسلات الإسرائيلية سواء الدراميّة أو الوثائقيّة. وندرك تماماً حجم وجديّة التوظيف الممنهج لتلك الأعمال في تعزيز السرديّة الصهيونية حول التاريخ والحاضر معاً، إضافة إلى دورها (الثقافيّ) المحوريّ في تكريس وعي مزيّف للإسرائيليين حول هويتهم، ودغدغة سيكولوجيتهم الجمعيّة المهزوزة حكماً، ناهيك بتضليل الشعوب الأخرى حول حقيقة هذه التجربة البشعة من الهندسة الاجتماعيّة التي ابتليت بها بلادنا منذ نشوء الحركة الصهيونية، وهزّ إيمان الإنسان العربي بحقوقه وقدرته على المقاومة. مع ذلك، يمكن اعتبار «الصندوق الأزرق» الذي عُرض أخيراً على القناة الرابعة في «بي. بي. سي» البريطانيّة (يتوافر للمشاهدة على منصتها كما على منصات أخرى حول العالم) عملاً استثنائيّاً نادراً وشجاعاً، ومادة خام مهمّة ـــ إذا تم عبورها نقدياً - لتفكيك بعض الأساطير المؤسسة للكيان العبري، واستحضار تاريخ مجهّل، على الأقلّ لغير المتخصصين، حول أساليب العمل التي تبنتها الحركة الصهيونيّة لتسويق مشروعها الوثيق الصلة بالدوائر الإمبرياليّة لليهود في أنحاء العالم وللشعوب الغربيّة المغيبة، وتنفيذ أجندتها في تفريغ الأرض جنوب سوريا من سكانها المحليين، وإحلال خليط هجين من مواطني دول أخرى بدلاً منهم، كـ«شعب» ملفّق، لدولة «قوميّة» للمدينين - ولو شكليّاً -بخرافات التوراة العبريّة.

يصوّر الفلسطينيين كمجموعة من المتوحشين البدائيين المتخلّفين

الوثائقي الإسرائيلي (82 دقيقة ــــ بالعبريّة مع ترجمة بالإنكليزيّة) إنتاج إسرائيلي ـ كندي ـــ بلجيكي مشترك، أسهمت في تمويله منظمات عدة بما فيها «وزارة الثقافة والرياضة» الإسرائيلية، و«مركز الفيلم الإسرائيلي». لذلك، هو لا يخرج كثيراً، في مقاربته، عن منهجيّة تيار المؤرخين الإسرائيليين الجدد، الذين يعيدون كتابة نتف من التاريخ المخجل للمشروع الصهيوني كنوع من العلاج السيكولوجيّ لحالة ما بعد الصدمة التي يجد فيها أيّ «إسرائيلي» عاقل ذاته عند مواجهة واقع دولته المنفصم والنقيض لأي منطق إنسانيّ. على أنّ المادة التي يطرحها «الصندوق الأزرق» كما مواد بعض المؤرخين الجدد، يمكن توظيفها ـ ببعض الحذق والتروي ـ لاستعادة زوايا مُوّهت من التاريخ المعاصر، في ظلّ غياب محزن ومخجل معاً للتوثيق الفلسطيني والعربيّ، وحرص الأنظمة العربيّة على إبقاء أرشيفاتها ـــ إن وجدت ـــــ خارج تناول المؤرخين والباحثين.
يتمحور «الصندوق الأزرق» حول يوسف فايتز، الذي ربما يكون شخصيّة غير معروفة لكثيرين خارج الكيان العبري، لكنّه لعب دوراً مركزياً في تمكين دولة يهوديّة في فلسطين من خلال موقعه مسؤولاً عن دائرة استملاك الأراضي في الصندوق القومي اليهودي، وطالما اعتُبر بمثابة «بطل» قومي لليهود، ورائد لجهود تشجير «الصحراء» الجرداء «في أرض بلا شعب». من خلال بحث في الأرشيف ومضاهاة للأحداث من يوميات جدّها غير المنشورة (حوالي 5000 صفحة تحتفظ بها العائلة)، تقود صانعة الوثائقي، ميشيل، حفيدة فايتز، مساءلة للسرديّة الرسميّة حول الطريقة التي استولى بها «الصندوق القوميّ اليهودي» على أراضي الفلسطينيين قبل إعلان قيام الدولة العبريّة في عام 1948 وبعده، إلى جانب الصيغ التي اعتمدها النظام الإسرائيلي الوليد لتجريد الفلسطينيين من كل حقوق قانونية لهم بالعودة إلى بيوتهم وأراضيهم وبلادهم. بالتالي، فهي تعيد موضعة جدّها المطوّب نبيّاً عبرانياً معاصراً في ضوء مغاير، يشكك في الأبعاد الأخلاقيّة لممارساته في منصبه. ممارسات دفع الفلسطينيون ثمنها وطناً وحياة ومستقبلاً.
عنوان الوثائقيّ مستلهم من تلك الصناديق المعدنية الرخيصة التي كانت تُطلى بألوان العلم الإسرائيلي وخريطة للأرض الموعودة، وتستخدم لجمع التبرعات النقديّة الصغيرة من اليهود وغير اليهود حول العالم لمصلحة مشاريع استملاك الأراضي في فلسطين. يبدأ الشريط الحكاية من عام 1910 عندما هاجر فايتز، الشاب اليهوديّ الروسيّ ابن الـ 18 عاماً، أيّام الأتراك العثمانيين، إلى الأرض «المقدسة» بغرض الاستيطان الذي كانت أولى طلائعه قد وصلت إلى منطقة جنوب سوريا بداية من عام 1882 وفق ترتيبات غربية-عثمانية. تغطي الحكاية بتمعّن مسيرته المهنية بعد التحاقه بالعمل مع «الصندوق القومي اليهودي»، لغاية تقاعده في أجواء حرب 1967 عندما ابتلعت الدولة العبريّة ما تبقى من أراضي فلسطين التاريخيّة.

من الوثائقي

الوثائقي متخم بالوقائع والأحداث، يتداخل فيه الشخصي بالقومي على نحو كثيف. لكن أهم طروحاته تتمثل في إدراك جدّها المبكّر ـــ من خلال يومياته ـــ أن هذه «الأرض التي هي بلا شعب» كانت مأهولة ومشغولة بأهلها من «العرب» الذين طوّروا نظام حياة اقتصادياً واجتماعياً شديد الارتباط بالأرض، يقاتلون دفاعاً عنها، وقناعته المبكرة بأن إنقاذ «شعبه» اليهوديّ ــ وفق التصور الصهيوني حتماً ـــ غير ممكن من دون انتزاع الفلسطينيين من أرضهم، وإلغاء وجودهم بشكل جذري وقاطع، مهما كانت تلك العملية مؤلمة على الصعيد الشخصي للمتصدين لتنفيذها. الغالبية الساحقة من الأراضي التي تمكّن «الصندوق القومي» من شرائها جاءت عبر صفقات مع إقطاعيين عثمانيين يعيشون بعيداً عن فلسطين في حلب وبيروت والقاهرة والإسكندرية ودمشق وعمّان، فيما وجد الفلاحون الفلسطينيون، الذين كانوا يزرعون الأرض مقابل عائد سنوي للملّاك، أنفسهم مطرودين بلا مقدمات. أمر وجدته ميشيل غير أخلاقيّ وإن اكتسب صفة «قانونية» تحت حكم الانتداب البريطاني (1923- 1948). مع ذلك، فإن مجموع تلك الأراضي التي استُملكت بتلك الطريقة، بقي غير كاف بأي شكل لبناء دولة. أمر دفع فايتز إلى وضع برنامج تفصيلي اعتمده بن غوريون – أول زعيم للكيان – لمنع عودة الفلسطينيين الذين انتقلوا أثناء حرب 1948 إلى الكيانات العربيّة المجاورة لفلسطين لاجئين لحين انتهاء الأعمال «القتاليّة»، كما تضمّن عملية تدمير واسعة النطاق للقرى والبلدات العربيّة وتغطية أراضيها بغابات الأشجار دائمة الخضرة، ومن ثم نقل ملكيّة مساحة ضخمة من تلك الأراضي (250 ألف فدّان) من النطاق العام (للدولة) إلى النطاق الخاص عبر نقل حقوقها للمنظمة (غير الحكوميّة وغير الخاضعة للقانون الدولي) المسماة بـ «الصندوق القوميّ اليهوديّ»، على نحو يضمن أن لا صيغ متاحة عملياً لعودة الفلسطينيين يوماً إلى بلادهم سواء وفق قرار الأمم المتحدة رقم 194، أو غيره من الترتيبات المستقبلية المحتملة.
يدعو فايتز حكام الكيان المستجد إلى تقديم تعويضات ماليّة للفلسطينيين المهجّرين كي يستقروا في الجوار ويسقطوا عنهم حق العودة. لكنّ هؤلاء المنتشين بانتصارهم المزعوم تجاهلوا فايتز، الذي استقال من «الصندوق القومي» عام 1966، وقرروا أنّ تلك المشكلة سوف تحلّ نفسها بنفسها. لكنّ ذلك لم يحصل حتى بعد سبعين عاماً، بل تعقدت أكثر مع احتلال مزيد من الأراضي (في عام 1967) التي كانت متخمة بالسكان الأصليين.
لا تختلف مقاربته عن منهجيّة تيار المؤرخين الإسرائيليين الجدد


إعادة ترتيب الحدث التاريخيّ بهذه الصورة، يفسّر، بلا شكّ، ذلك القلق العميق الذي لا يزال يشغل الدولة العبريّة إلى اليوم، وقد دفعها في وقت ما إلى تغيير صيغة احتلال غزّة، وفق مشروع شارون، وتأسيس سلطة «وطنية» ترعى تحجيم مقاومة فلسطينيي الضفة الغربيّة، كما تلك الجهود المنسقة لإبادة اللاجئين وتهجيرهم خارج منطقة شرق المتوسط كلّها عبر العمليات العسكرية، وعملائها في اليمين الفاشيّ كما البؤر التكفيريّة في مخيمات اللجوء التي تمنح الأنظمة العربيّة، على تمايز دوافعها، المبرّر لتدمير تلك المخيمات (كما في البارد، والبداوي، واليرموك وحالياً عين الحلوة).
تقدّم ميشيل هذه الوقائع وخلفياتها بشكل مقنع ومحترف فنيّاً مدعّم بمواد أرشيف فوتوغرافيّة وفيلمية (بالأسود والأبيض)، وتغني المقاربة بصرياً أيضاً، عبر تواز بين الحدث التاريخي وتعليقات من أفراد عائلة فايتز من أبنائه وأحفاده الذين يتفاوتون في تقبّلهم لتحطيم صورة البطل التاريخي يوسف مع اختلاف الأجيال.

يتجنب الإشارة إلى برنامج التطهير العرقي الواسع بحقّ الفلسطينيين


بالطبع، فإن العمل في المحصلة نتاج إسرائيلي، يحكي ويفكّر من وجهة نظر الجيل الإسرائيلي المعاصر. لذلك، فمشاهدته تتطلب حداً أدنى من المعرفة التاريخية كي لا ينتهي المرء ضحيّة ساذجة لـ «اللامنطق» العبري. إذ يتجنب الوثائقي بشكل حاسم الإشارة إلى برنامج التطهير العرقي الواسع الذي نفذته القوات الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 فيظهر السكان الأصليون كأنهم غادروا بسبب الحرب (المسرحية) مع جيوش الأنظمة العربيّة التي وفرت الغطاء لإفراغ الأرض من أهلها، ويصوّرهم كمجموعة من المتوحشين البدائيين المتخلفين حضارياً الذين يلعبون دور الضحية باقتدار تماماً كما يتصّور الغرب ضحاياه من الهنود الحمر وسكان أستراليا الأصليين.
في ضوء «الصندوق الأزرق»، يبدو التاريخ أفصح، والحاضر أوضح، ويتعرى المأفونون دعاة الدولة الواحدة مع المستوطنين الغزاة في فلسطين على حقيقتهم: مهزلة تاريخية، ونكوصٌ إنساني، وعارٌ قوميّ.