في السينما عادةً، ننتظر انتهاء الإعلانات التجارية لبدء الفيلم. لكن مع «باربي» (2023)، فإنّ إعلانات شركة «ماتيل» للدمى تبلغ ساعتين كاملتين! القاعة مكتظّة، وكل مقعد يجلس عليه شخص مشغول على الإنستغرام. بعضهم لم يتجرّأ على دخول الصالات السينمائية منذ جائحة كورونا كما تُفيد الإحصائيات. صوت الجمهور أعلى من المعتاد، وبعضهم يرتدي الزهريّ! «السينما ماتت» يقول المثقّف المتشائم. لكنّ فيلم «باربي» ناجح للغاية تجارياً، إلى درجة أنّه لا ينقذ شركة «ماتيل» فحسب، بل أيضاً صناعة السينما كما يزعم بعضهم الآن. وإذا كان فيلم «باربي» دليلاً على أن السينما حيّة طالما أنّ كثيرين يقيسون ذلك بعدد المشاهدين، فمن الأفضل لها إذاً أن تموت!

الإصدار الشعبي الأكثر ترقّباً لهذا العام، جمع أكثر من مليار دولار على شباك التذاكر. «باربي» ليس تكريماً للدمية المحبوبة، ولا ثورة نسويةً ولا هجوماً على الذكورية كما روّج الإعلام. المسألة، بكل بساطة، أنّ المخرجة غريتا غيروغ تبيعنا علامة تجارية، وتشكّك بها، وبرضى صانعيها في فيلم يسعى لإرضاء الجميع، فيدخل في موضوعاته ويخرج منها، ويُعبّر عن الأفكار بطريقة مرتبكة وغير بريئة على الإطلاق، بحيث يعود كل مشاهد إلى منزله معتقداً أنه شاهد الفيلم الذي تخيّله مُسبقاً. وكما هو متوقع، فإن الفيلم يدّعي أنه يهاجم نموذج 90-60-90 في الثقافة الشعبية، لكن من دون سفك الدماء، والأهم من دون أيّ أصالة أو مفاجأة. يدور الفيلم حول نفسه، خالطاً بين المواضيع، ويكون الارتباك، لا التناقض، أحد عيوبه. «باربي» عملية تجميل لعبة، وفي الوقت نفسه محاكاة ساخرة عن الذات، ومنغمسة في الذات، ومحسوبة بشكل مفرط.
وُلدت باربي نجمة شركة «ماتيل» للألعاب عام 1959، أي قبل ثلاث سنوات من صديقها العزيز كين. شهدت تغيرات لا حصر لها، وخصوصاً في خزانة ملابسها، للتكيف مع الحركات والتوجّهات الاجتماعية والانتقادات. انتقلت من ربة منزل سعيدة إلى طبيبة أو امرأة إطفاء أو رائدة فضاء أو رئيسة. ابتكرتها روث هاندلر (1916 – 2002)، واحدة من مؤسسي الشركة. صُمِّمت الدمية على شكل عارضة أزياء شقراء، ووركين ضيقين، وخصر صغير، وصدر مدبّب، وأقدام على رؤوس أصابع القدم. مثّلت باربي مثل آخرين «الكمال الأنثوي» لما يسمى بالحلم الأميركي، وكذلك الجانب الخبيث منه.
يعدّ فيلم «باربي» ومخرجته غريتا غيروغ، جزءاً من الاستراتيجية التي بدأتها الإدارة الجديدة لشركة «ماتيل» عام 2018، طامحةً إلى شيء أكثر من مجرد أفلام سينمائية. أعادت تدوير نفسها من مصنع ألعاب إلى مصنع للثقافة الشعبية، بالطريقة نفسها التي أخرجت بها «مارفل» نفسها من الخراب، لتكون عملاق هوليوود الحالي. تطمح شركة «ماتيل» للحصول على بعض هذا العسل، وما فيلم «باربي» إلا أوّل الغيث (يتوقع أن يؤدي الفيلم إلى زيادة مبيعات الدمية الشهيرة بنسبة 16% بحلول عام 2026)، الذي سيستمر مع فيلم Polly Pockets، قريباً من تأليف وإخراج لينا دونهام. مع بداية الألفية الجديدة، احتاجت دمية «الجمال المثالي» و«الكمال الطاهر» إلى المراجعة والتكيف مع التنوعات الجديدة، مع العديد من الأجسام الجديدة، والعيون ولون الشعر وما إلى ذلك. وكذلك، بدأت الشركة احتضان «ثقافة الووك» Woke. على سبيل المثال، تضمنت مدونة الفيديو الخاصة بباربي عام 2019 على يوتيوب محادثة حول العنصرية بين باربي وصديقتها نيكي السوداء. اليوم، هناك باربي من جميع الأجناس والأحجام، حتى باربي على كرسي متحرك وباربي مع متلازمة داون.


استراتيجية الشركة الجديدة لإعادة استحواذها على الكوكب، كما قلنا هو مع السينما، ومع مخرجة الفيلم والممثلة وكاتبة السيناريو غريتا غيروغ («ليدي بيرد»/ 2017)، «ليتل وومن»/ 2019)، وقد أُدرجت أيضاً كمنتجة وكاتبة السيناريو مع نواه بوبباك، المخرج الذي يحظى بتقدير كبير، وهو أيضاً زوجها. كلاهما، وخصوصاً هو، من الشخصيات المرموقة في السينما المستقلة، يسعيان للتعبير الشخصي الفني بعيداً عن النجاح التجاري. لذا، فأن يتولّيا، وخصوصاً غيروغ، مشروعاً مماثلاً ضخماً مع الكثير من توقعات شباك التذاكر، يبدو أمراً متناقضاً، لكنه في الواقع التطور الطبيعي لصانعي الأفلام، وللبشر عامة، الذين يسعون إلى كسب أكبر قدر من المال. لكن دعونا لا نحكم على النوايا ولا الرغبات، بل النتائج الفنية فقط. صناعة الأفلام ليست بالأمر السهل، ومرة أخرى، ما يهم هو النتيجة.
في «باربي لاند»، كل دمى باربي مثالية، وفي كل ليلة هناك حفلة. الدمى سعيدة جداً، لا «سيلوليت» على أجسامهن ولا أفكار سوداوية. كل شيء زهري، الناس يبتسمون، وفوق كل هذا، النساء هن اللواتي يحكمن. الرجال، وجميعهم كين، حمقى، ليسوا أكثر من مجرد زينة، بعضلات بطن محددة. والأهم ليس لديهم أعضاء تناسلية، كما باربي. في صباح أحد الأيام، بعد عدد لا يحصى من الأيام المتطابقة الأخرى، تستيقظ «باربي النموذجية» أو «النمطية» (مارغوت روبي)، في بيتها المثالي وتكتشف أنّها تفكر في الموت. يبدأ نهارها بطريقة غريبة: الحليب الذي تشربه أصبح فاسداً، قفزتها اليومية من منزلها إلى السيارة التي كانت تنتهي بهبوط رشيق، جعلتها ترتطم بالرصيف، والأهم فقدت قدرتها على المشي على رؤوس أصابعها. تبدأ هنا معاناتها مع قدميها المسطّحتين، وهذا شيء يجده الجميع في «باربي لاند» مثيراً للغثيان. تصرّ دمى باربي الأخرى، على استشارة «باربي الغريبة» (كيت ماكينون) وهي باربي حكيمة ولكن شوِّه شعرها ووجهها وجسدها من قبل مالكتها في «العالم الحقيقي». باربي الغريبة تنصح باربي النمطية بالسفر إلى «العالم الحقيقي»، والعثور على الفتاة التي تملكها، واكتشاف سبب الخلل في جسدها وعقلها وحياتها. هكذا كان. تلتقي باربي في العالم الحقيقي بالمراهقة ساشا (أريانا غرينبلات)، ووالدتها غلوريا (أميركا فيرارا). في الرحلة إلى ماليبو برفقة كين (ريان غوسلينغ)، يستكشف كلاهما أن النظام في «العالم الحقيقي» هو نظام أبوي ذكوري. وبينما تكتشف باربي الظلم السائد في المجتمع المتحيّز جنسياً، يدرك كين أنه يستطيع الإفادة منه ليقلب النظام في «باربي لاند» لصالحه ولصالح جميع الرجال. في هذه الأثناء، يريد مدير شركة ماتيل (ويل فيريل) إعادة باربي إلى الصندوق ومنه إلى عالمها الخاص.


مقدمة الفيلم تقول الكثير. تخبرنا الراوية (هيلين ميرين) عن التغيير الكبير الذي شهدته البشرية ومثّلته ولادة الدمية باربي. لقد فعلت ذلك مقتبسةً من المشهد العظيم الذي بدأه المخرج ستانلي كوبرك فيلمه «2001: أوديسا الفضاء» (1968)، لكن ما قدمه كوبرك في ذلك المشهد لا يصلح مقارنته بمقدمة غيروغ. الأخيرة سخرت بمكان ما بكوبرك، وبالمشهد الذي لا يزال من أهم المشاهد في تاريخ الفنّ السابع. حطّم كوبرك وقتها كل المسلّمات والتابوهات وبدأ فيلمه. قدّمت غيروغ الدمية على أنها التغيير الكبير في التاريخ، التغيير الذي من شأنه أن يغيّر حياة الفتيات، ثم من بعدها يأتي التطور والكمال النسوي الشجاع والمتنوع، الذي هو ليس أكثر من عالم الدمى الزائف والسطحي والخالي من الجنس. من هنا ومع مشاهد الفيلم الأولى، بدا واضحاً أن الخطاب النسوي الذي يتبنّاه الفيلم عاجز عن إيجاد أفكار محفزة خارج الكليشيهات الخاصة بالنساء والحذاء المسطح. منذ بداية الفيلم، بدأ مستوى الغوغائية في الخطاب مع فائض الألوان النموذجية للعبة «ماتيل». وفوق كل هذا، أعلنت غيروغ أنها استوحت الألوان والمشاهد من المخرج جاك ديمي، فلكي تحمي نفسك قليلاً عند قول الهراء، من الأفضل أن تقول إنك تقتبس من صانعي الأفلام الجيدين.
هيكل الفيلم السردي هلامي، يتخلله بعض الأغنيات والرقصات التي تبدو كأنها خارجة من برنامج Saturday Night Live. في كثير من الأحيان، جاءت الكلمات المنطوقة عديمة الوزن، وفي غير مكانها ومقحمَة على النص. لا يمكن الخروج من الفيلم بمشهد واحد يُذكر. الشيء الوحيد الذي يبقى هو ابتسامة «باربي» الجميلة والساذجة. يتراكم كل شيء في الفيلم من البداية، ويحاول تغطية الكثير من خلال توجيه النقد للحداثة والرأسمالية، أكثر من كونه قصة رمزية متماسكة. طموح المخرجة الكوميدي من خلال المحاكاة الساخرة، والسخرية من مديري «ماتيل» ومن الشركة نفسها، ومن غباء الذكور، وأسلوب حياة باربي، غير مجدٍ.
الفيلم ليس تكريماً للدمية المحبوبة، ولا ثورة نسويةً ولا هجوماً على الذكورية

إن الفكاهة المبنية على الصور النمطية ليست كافية للتعويض عن الإفراط في السرد. عند انتقال باربي إلى العالم الحقيقي، كنا نتوقع عملاً حول علاقتها بالبشر، والدور الذي قد تلعبه في الكفاح النسوي اليوم ضد النظام الأبوي، ولكن ما كان أمامنا شيء سطحي للغاية، بل إنّه سار في اتجاه خاطئ تماماً أدى إلى نتائج عكسية. يقدم الفيلم في البداية تشابهاً مع عالمنا الحقيقي، وكان ممكناً أيضاً توسيع ذلك، ثم تفكيكه من خلال عدم التركيز على التناقض بين الرجال والنساء، بل الإشارة إلى العدو الحقيقي، أي النظام الاقتصادي الذي نعيش فيه. مع تقدّم الفيلم، يبدأ التشابه بين عالم باربي وعالمنا في التعثّر، ويتبين أنه مجرد تفكير أبيض وأسود بين الرجال والنساء. لم يتمكن «باربي» من الانتقال بفعالية إلى موضوع الحرب الثقافية والتوترات والمشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. يصور «باربي» النظام الأبوي فقط على أنه سبب اضطهاد المرأة، دون أي شيء آخر. في المبدأ، تبدو الفكرة جيدة ومرغوبة، لكنها تتجاهل حقيقة المشكلات الهيكلية من أجل حصول المرأة على مكانتها وحقوقها، وأيضاً المشكلات النظامية وطبعاً الدينية. النظام الاقتصادي العالمي اليوم هو النظام الرأسمالي، لا يفرق بين رجل أو امرأة أو غيرهما، الرأسمالية لا تهتم بمن تستعبد، الشيء الرئيسي هو أنه مستعبد. باربي لا تعترف بهذه المشكلة (كي لا نقول إنّها صنيعة هذه المنظومة الرأسمالية). المعركة فقط هي ضد النظام الأبوي، و«باربي» تتجاهل الجبهة الثانية من الحرب، وبالتالي يمكن اعتبار ذلك ضربة أيديولوجية ذكية بشكل خاص من شركة «ماتيل»، التي لا تستطيع حتى غيروغ مواجهتها.
بالعودة إلى «باربي لاند»، الذي تحوّل بسبب النظام الأبوي الذي تعرّف إليه كين في خمس دقائق، إلى مجتمع من الرجال الحمقى، تبدأ غيروغ سخريتها من كل شيء، بداية بالأحصنة ودعاية «مالبورو» الشهيرة، وسليفستر ستالون، وفيلم «إنقاذ الجندي راين» (1998)، وفيلم «تروي» (2004)، وكل ما يمثّل المجتمع الأبوي في نظرها، من دون حجج مقنعة. مع عودة باربي مع ساشا وغلوريا، تبدأ الثورة المضادة ضد الرجال، وهذه الثورة غبية أكثر من النظام الأبوي، فتبدأ بالسخرية من فيلم «العراب» (1972) وتأثير لو ريد على الموسيقى، ومن بعدها إشعال حرب أهلية بين الذكور للقضاء عليهم. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّه عندما تلتقي باربي بساشا وصديقاتها في المدرسة، تصفها الصديقات بأنها لعبة استهلاكية فاشية، وبطبيعة الحال، لا تستطيع باربي فهم ذلك أو الدفاع عن نفسها ضد هذه التهمة. لعل هذه الجملة هي الشيء الصادق الوحيد في الفيلم، فالعالم الذي تعيش به باربي هو عالم فاشي، والمجتمع يجسد شعباً مثالياً. في «باربي لاند»، توجد الهيئة الوطنية المثالية التي يحلم بها الفاشيون، عدا عن أنّ المجتمع طبقي، فجميع دمى باربي متشابهة، لكن بعض دمى باربي أعلى شأناً من غيرها. وأيضاً تعيش باربي الغريبة، التي لا تتلاءم مع الجسد الوطني المثالي لدميات باربي الأخريات، معزولةً في منزلها. ثم يأخذ الفيلم الفاشية إلى مستوى أعلى، فثورة باربي على النظام الأبوي تبدأ بغسيل دماغ الدمى. تصوَّر النساء، اللواتي تجسدّهن الدمية باربي، في الثلث الأخير من الفيلم، ككائنات عاجزة عن اتخاذ قرارات مستقلة. وكما في بداية الفيلم، هنّ لا يتمتعن بإرادة حرة ولا قدرة على وعي مأزقهن. يجب إخبارهنّ بذلك أولاً من خلال دمى باربي الأخرى «المستيقظة». كل هذه الفوضى تجبرنا على طرح الكثير من الأسئلة: هل هذه حقاً «الرسالة» التي يريد فيلم «باربي» نقلها للفتيات الصغيرات؟ إي أنهن لا يستطعن التفكير بشكل مستقل ولا تحرير أنفسهن من النظام الأبوي إلا من خلال الاستيقاظ وأفراد «متفوقين» عليهن فكرياً؟

تبدأ غيروغ سخريتها من كل شيء، بداية بالأحصنة ودعاية «مالبورو» الشهيرة، وسيلفستر ستالون


نسوية باربي فظة وسطحية، وفي بعض الأحيان، مُحرجة. الفيلم أسخف من أن يكون كارهاً للرجال أو العائلة أو أي شيء. الدعابة في الفيلم مؤلمة، وخجولة للغاية، وغير مصممة لإثارة الحد الأدنى من النقد. إن التصفيق الذاتي لكاتبي السيناريو يتردّد صداه مع كل عبارة. الحقيقة أن المخرجة غريتا غيروغ، التي كانت ذات يوم جزءاً من الفقاعة المستقلة، باعت نفسها في هذا الفيلم. كل شيء مناهض للرأسمالية، كل شيء نسوي، كل شيء ينتقد النزعة الاستهلاكية تمت الموافقة عليه من قبل أحد رجال شركة «ماتيل» (المنتجة للفيلم) لأنّ تحليلهم للسوق أظهر أن هذا هو بالضبط ما سيلتهمه المستهلكون بسعادة. إن موضوع الفيلم و«رسالته» ولماذا تريد شركة مثل «ماتيل» أن تخبرنا بهذا ليس واضحاً. لا يمكنهم حتى أن يقولوا «النسوية جيدة». في الدقائق الأخيرة من الفيلم التحرري المزعوم، تطلب صانعة «باربي» منها أن تشعر بشيء ما، لتصبح إنساناً. نرى بعدها مجموعة من الصور المتنوعة للعديد من الأمهات السعيدات مع أطفالهن. لذا في النهاية، يقول الفيلم إنّ الأمومة هي التي تمنح المرأة الإشباع العاطفي، بعدما كان ينقصها في بداية الفيلم، ناهيك بالسخرية من باربي الحامل.
في الوقت الذي يعارض فيه الكتّاب في هوليوود استخدام الذكاء الاصطناعي، يبدو من المفارقة أنّ أكبر نجاح في شباك التذاكر هذا العام يبدو كأنه منتج للذكاء الاصطناعي. أي عمق مرغوب يبقى ضحلاً، أي عاطفة قسرية تتركك بارداً، واللقطة الأخيرة من الفيلم، تتويج مثالي للهراء الذي رأيناه لمدة ساعتين.

* «باربي» في الصالات اللبنانية