القاهرة | لا يملك المهتمّون بالآثار في مصر أي سلطة لوقف الهجمة التي تمارسها حكومة السيسي على المقابر التاريخية في القاهرة، سوى الصراخ وتدشين حملات على مواقع التواصل الاجتماعي، في محاولة لتحشيد الرأي العام والمثقفين والمهتمين بالفنون لوقف الإزالات وإعادة النظر في مشروع المحاور المروريّة التي رأت الحكومة أنّها تستدعي إزالة ما لا يقلّ على 2500 مقبرة، من بينها مقابر ذات طراز معماري مميّز، وأخرى لشخصيات لعبت دوراً محورياً في التاريخ المصري السياسي والاجتماعي والديني.
من مبادرة «رسم مصر»

وعلى رغم تصاعد حالة الرفض لإزالة المقابر (6/9/2023 ــــ 29/8/2023)، ورفع دعاوى قضائية لإلزام الحكومة على وقف حملتها، إلا أنّ عمليات الهدم مستمرّة وسط «طناش» رسمي، على اعتبار أنّ هذا الغضب مجرّد «تنفيسة» من مجموعات «نخبوية» على فايسبوك. استمر الوضع على هذه الحال حتى تاريخ الثاني من أيلول (سبتمبر) الحالي، عندما تداول الآلاف على مواقع التواصل الاجتماعي، صوراً لمجموعات شبابية تتجوّل بين المقابر التاريخية، ضمن فعالية حملت اسم «طالع إزالة». غالبية هؤلاء الشباب طلبة في كليات الفنون الجميلة، وهم أعضاء في مبادرة «رسم مصر» التي أطلقها، قبل خمس سنوات، أستاذ الرسم والتصوير في كلية التربية الفنية في «جامعة حلوان» محمد حمدي. تعرّف هذه المبادرة عن نفسها على حساباتها الاجتماعية: «نهتم بفنون مصر وتاريخها، بننزل نرسم ناس وآثار ومعالم»، إذ يشارك أعضاء المبادرة في جولات ميدانية على أماكن تاريخية يصوّرونها ويرسمون لوحات فنية تعبّر عن المكان. لكن هذه المرة كانت الزيارة مختلفة، فالأزمة حول مقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة كانت في أوجها. لذا، اعتبر النظام أنّ اختيار زيارة هذه المقابر في هذا التوقيت، عمل احتجاجي بحدّ ذاته. هكذا انقلبت أمّ الدنيا، وجرى تداول الصور على نطاق واسع. وأمام حالة القلق من ردة فعل أمنية، سارع مؤسس المبادرة إلى إصدار بيان بعد يومين من الزيارة حاول فيه التأكيد على أنّ «جولة «رسم مصر» صوِّرت كما لو كانت احتجاجاً، وهو غير ما ترمي إليه المبادرة من أهداف»، مؤكداً على أن المبادرة تعمل، منذ خمس سنوات، على تصوير ورسم الأماكن التاريخية والأثرية المصرية «بهدف تعريف الشباب بتاريخ الوطن وفنونه». لم يفت مؤسس المبادرة مهاجمة وسائل الإعلام «المغرضة والمضللة»، ومواقع التواصل الاجتماعي التي نشرت الصور باعتبارها عملاً احتجاجياً، مؤكّداً أنّ المبادرة «ليست لها أي أهداف سياسية».




ورغم هذا النفي الذي لا نعرف إن كان بأمر مباشر من جهاز أمني أو قرار شخصي خوفاً من بطش أمني، فإنّ الجولة وما نشر عنها حقّق مراده. توقفت بالفعل أعمال الهدم في المقابر بعد نحو يومين من زيارة أعضاء المبادرة. وقال عدد من أصحاب المقابر في الإمام الشافعي لنا إنّ الجرّافات التابعة لحملة الإزالة ما زالت في الموقع، لكنها توقّفت عن العمل، إلى جانب طمس كلمة «إزالة» التي كانت مكتوبة على بعض المقابر المخطّط هدمها. أمر اعتبره الباحث الأثري المستقل مصطفى الصادق «وقفاً موقتاً»، قائلاً لنا إنّه لن يصدق أي حديث عن إلغاء خطة هدم المقابر التاريخية إلا بعد صدور قرار رسمي بذلك، مضيفاً: «أحنا صدقنا قبل كده أن الحكومة استجابت لتوصيات لجنة تقييم موقف المقابر بالإبقاء عليها وعدم هدمها واكتشفنا أن الهدم مستمر». وهنا يتحدث الصادق عن لجنة أوصى رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي بتشكيلها في 12 حزيران (يونيو) الماضي لتقييم الموقف بشأن نقل المقابر في منطقة السيدة نفيسة والإمام الشافعي، وتحديد كيفية التعامل معها. لكنّ توصياتها بالإبقاء على المقابر وتطوير المنطقة لتكون مزاراً سياحياً قوبلت يومها بالتجاهل. وعليه، انسحب خمسة أعضاء من اللجنة، إلى جانب أثريّين من لجان أخرى تابعة لوزارة الآثار احتجاجاً على استمرار الهدم، منهم أيمن ونس الذي أعلن استقالته من اللجنة الدائمة لحصر المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز (شرق القاهرة)، ونشر نص استقالته عبر فايسبوك قبل أن يحذفها، ويؤكد في منشور جديد أنه «أسيء استخدامه للهجوم على جهود الدولة الدؤوبة والمستمرة في التطوير وتحسين البيئة العمرانية وحياة المواطنين، وهذا ما لم أكن أعنيه أو أنويه أو أستهدفه إطلاقاً». هذا التراجع يشبه بالضبط ما حصل مع مؤسس «رسم مصر».
اعتبر النظام أنّ هذا الغضب مجرّد «تنفيسة» من مجموعات «نخبوية» على فايسبوك

أحد أعضاء المبادرة (رفض الكشف عن اسمه) يقول لنا إنّ مؤسس المبادرة غضب من ردة الفعل على تناول مسألة زيارة الإمام الشافعي، وتخوّف من القبض عليه أو على أحد أعضاء المبادرة. لذلك سارع إلى إصدار بيان يؤكّد فيه أنّ لا أهداف سياسية للمبادرة، مضيفاً: «الحقيقة أنّنا لم نتوقع ردة الفعل على الزيارة. كنا خائفين على المقابر واختفائها من ذاكرة المصريين». لكن هذا الخوف على المقابر التاريخية امتد ليطال الخوف على أعضاء المبادرة أنفسهم: «بعد الزيارة، خشينا القبض على المشاركين في المبادرة. لذلك، جاء البيان للتأكيد على أهدافها». ونشرت المبادرة نتاج الزيارة عبر صفحتها، منه رسومات أنجزها الطلبة الذين شاركوا في الجولة، ويصوّر بعضها بالفعل الهجمة الحكومية على المقابر التاريخية. ورغم القلق الواضح والمبرّر في الحقيقة، سواء من جانب «رسم مصر» أو المستقيلين من اللجان الأثرية، إلا أنّ هذا التحرك، ألقى فعلاً حجراً في مياه راكدة، فالدوائر اتسعت وقلق السلطة كان واضحاً في ردود فعلها: إجبار «رسم مصر» وعضو لجنة حصر المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المميز، على التراجع ونفي التخطيط لأي عمل احتجاجي، إلى جانب القرار غير المعلن بالوقف الموقت لهدم المقابر التاريخية.