القاهرة | منذ السبت حتى الإثنين، تفرّغت الدولة المصرية بكل أجهزتها، ومن بينها بالطبع جهاز الإعلام، لتغطية مؤتمر «حكاية وطن بين الرؤية والإنجاز» الذي أقيم في العاصمة الإدارية الجديدة، أحد أبرز مشاريع نظام عبد الفتاح السيسي على الإطلاق. وكما اتضح من عنوانه ومجرياته، كان المؤتمر مجرد تمهيد لإعلان وزير الدفاع الأسبق نيّته الترشح لمرة ثالثة ـــ يُفترض أنها الأخيرة ــــ لرئاسة مصر في ولاية تمتد ستّ سنوات حتى عام 2030 (كانت أربعاً فقط عندما تولى الرئاسة عام 2014). بدون جدول معلن مسبقاً، أدرك المتابعون تدريجاً أن المؤتمر عبارة عن جلسات تضم كل جلسة وزيرين من الوزارات الخدمية لعرض منجزات كل وزارة، مع تدخّل مستمرّ من الرئيس للتعليق، على أن ينتهي المؤتمر بجلسة ختامية تضمن خطاباً للسيسي يعلن فيه الترشح رسمياً، بعدما أكد هذا الأمر عشرات المرات خلال مداخلته وحديثه عن مشاريع ستنتهي في سنوات مقبلة، باعتبار نجاحه «تحصيلاً حاصلاً».
(محمد سباعنة ـ غزة)

رغم الحشد الكبير لتغطية المؤتمر والتأييد الإعلامي المطلق للرئيس منذ أن احتكر معظم الشاشات والصحف في المحروسة عبر كيان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية»، إلا أنّ السيسي كرّر كالعادة انتقاداته للمحتوى الإعلامي، كأنّ هناك شخصاً غيره يمسك بالريموت كونترول في مصر! وطبقاً لقاموسه «المميز»، اختار الرئيس الأقل شعبيةً في تاريخ المحروسة هذه المرة «برامج الطبخ»، مدخلاً للانتقادات التي كررها مرتين. قال إنّ مديري القنوات مهتمون بتلك البرامج أكثر من المشاريع، مؤكداً أنها لا تقدم معلومات صحية للناس. في الحالتين، لا يفتقر كلامه للدقة وإنما للصحة، فبرامج الطبخ منتشرة في كل قنوات العالم، ولا تتعارض مع تخصيص ساعات للحديث عن «الإنجازات»، إلى درجة الإعلان أخيراً عن إطلاق قناة تحت اسم «إكسترا مشروعات» تابعة لقطاع الأخبار في «المتحدة» من أجل التركيز على المشاريع القومية «السيساوية» إن صحّ التعبير.
انتقادات السيسي للإعلام وصلت إلى تبرئه من هجومه السابق على بعض الدول وقت الخلاف مع القاهرة، وخصوصاً قطر وتركيا. تناقض جديد، لا يجد تفسيراً كأنّ جهة أخرى غير أجهزته تولّت توجيه الإعلاميين وقتها. لكن أغرب ما حدث في ما يخص ملف الإعلام أثناء جلسات «حكاية وطن»، هو تعرّض الجلسات نفسها للمونتاج، أي إن الرئيس لم يكن يكلّم المصريين on air. أكد مصدر حضر بعض الجلسات لنا إنّ معظم الجلسات تعرّضت لحذف أجزاء من مداخلات الرئيس التي ردد فيها عبارات تثير الانتقادات ضده. ولهذا كانت الجلسة تبدأ مثلاً في العاشرة صباحاً لكنها تعرض في الثانية عشرة ظهراً، وهو أمر لم يكن يجري قبلاً في هذه النوعية من المؤتمرات. أمر يدلّ على أنّ يداً أخرى كانت تتدخل لحماية الرئيس من أثر انفلات كلماته. وأشار المصدر كذلك إلى أن بعض الندوات التي كانت تنتهي في ساعة متأخرة، كانت تعرض في اليوم التالي. لكن المتابع لن يدرك إلا لو ركز في ملابس الحاضرين سواء الرئيس أو من بجواره عند بث جلسة تالية عُقدت في يوم مختلف، معترفاً في الوقت نفسه بأن تلك التفاصيل لم تعد تهمّ رجل الشارع العادي الذي لا يتابع من الأساس، وإنما يبحث عن الملخّصات، لكنها تعكس ارتباكاً واضحاً في الكواليس. هذا الارتباك لم يتناوله أحد بالتحليل في برامج «التوك شو» التي تؤيد الرئيس المصري وتستعرض مشاريعه طوال الوقت، وفي عدد ساعات يفوق بكثير ساعات برامج الطبخ. وحده عمرو أديب غرّد منفرداً مساء الإثنين، منتقداً الكثير من كلام السيسي لكن بلهجة ناعمة. إذ أكّد أنّ الإعلاميين يفتقدون للحرية، والجمهور يعايرهم يومياً بقائمة الممنوعات فيما مقالات الرأي لا تزال تُمنع في العديد من الصحف.
إطلاق قناة «إكسترا مشروعات» من أجل التركيز على المشاريع «السيساوية»

وكل ذلك يتناقض مع وعود الرئيس باستمرار الحوار الوطني وفتح المجال العام. ودعا أديب إلى أن تكون الانتخابات المقبلة فرصةً لتعويض كل خسائر الحريات السياسية منذ تولى السيسي حكم مصر. لكنه لم ينتبه إلى «إشارة» تركها مخرج مشهد ترشح الرئيس، إذ اختار الإعلامية نهى درويش لتقديم الجلسة الأبرز في المؤتمر. درويش التي لا يعرفها رجل الشارع المصري، هي نفسها صاحبة العبارة التاريخية «تم الإرسال من جهاز سامسونغ» التي اختتم بها خبر وفاة الرئيس المعزول محمد مرسي في حزيران (يونيو) 2019، ليتأكد للملايين وقتها أنّ الأخبار تأتي إلى الشاشات عبر «الواتس آب». ولولا ضيق الوقت لحُذفت العبارة. الضجة حول الأزمة، دفعت وقتها بعضهم إلى القول إن هذه الطريقة ستتغير. لكنّ أربع سنوات مرّت منذ الحادثة الشهيرة، كانت كفيلة بدحض آمال المتفائلين، والإبقاء على المذيعة التي يحرّكها وهي وغيرها مَن يمسك بجهاز السامسونغ.