في مصر لا يمكنك التضامن مع غزة بأكثر من كتابة منشور على فايسبوك أو نشر فيديوات للمقاومة الفلسطينية، وما تفعله بالمحتل الإسرائيلي منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) حتى الآن، لكنك إن استطعت دخول حرم الجامعة الأميركية في منطقة التجمع الخامس في القاهرة الجديدة البعيدة عن صخب وسط العاصمة الممتلئ بقوات الأمن الذين يمكنهم توقيف أي كان واقتياده إلى مكان غير معلوم، يمكنك أن تتظاهر ضد إسرائيل وتندد بالتأييد الأميركي نفسه للعمليات التي يقودها العدو في قطاع غزة. مع بدء عملية «طوفان الأقصى» وما تبعها من انتقام إسرائيلي مجنون، نظّم طلاب الجامعة الأميركية في القاهرة تظاهرات تضامنية مع فلسطين وأهلها في مواجهة المحتل الإسرائيلي.
برهان كركوتلي (1932 – 2003) ـــ «أطفال فلسطينيون» (1975)

وهتف الطلاب: «يا فلسطين.. يا فلسطين.. إحنا وراكي بالملايين» و«يا أمن الجامعة الأميركية.. فلسطين عربية» و«فلسطين أرض عربية.. يا صهيوني اطلع بره» و«بالروح بالدم نفديك يا فلسطين». ونشرت حسابات التواصل الاجتماعي التابعة للجامعة الأميركية جانباً من التظاهرات، حيث تحرك الطلاب في الحرم الجامعي وأمام مبنى اتحاد الطلاب، ورفعوا علم فلسطين ولافتات كتبت عليها عبارات تندد بالمحتل الإسرائيلي.
وحقيقة الأمر أن هناك خصوصية لمسألة التظاهرات في الجامعة الأميركية، حيث دائماً ما يتمكن طلابها من التعبير عن تمردهم بالطريقة التي يريدونها طالما كانت مشروعة، ولكن هذا داخل أسوارها فقط، حيث يعلمون أنهم محميون تماماً من أي تنكيل من الداخلية المصرية بعكس نظرائهم في المؤسسات التعليمية الحكومية، باعتبار الجامعة ليست مصرية ولا تخضع للحكومة بشكل مباشر. وبالطبع غابت هذه التظاهرات عن التغطيات الإخبارية للقنوات التلفزيونية في مصر، ولم تذكر قناة واحدة ولو بشكل عابر وجود هذه التظاهرات التي كسرت حاجز الصمت في مصر تجاه ما يحدث في قطاع غزة، وأعادت نشاط التظاهرات ذات الطابع السياسي القومي الغائب منذ نحو عشر سنوات مرة أخرى إلى الصورة، حتى مع كل محاولات طمس معالم هذا الحدث وتغييبه عمداً عن التناول الإعلامي. سيترحم الطالب المصري في الجامعات والمدارس الحكومية أيضاً على تلك الأيام، وقت حكم حسني مبارك ولوقت قصير بعد ثورة 25 يناير، حيث كان طلاب المدارس والجامعات في إمكانهم تنظيم تظاهرات التضامن مع القضية الفلسطينية وحرق العلم الإسرائيلي. أمر كان شائعاً في القاهرة بشكل كبير، فلم تفوت تظاهرة واحدة ضد إسرائيل من دون حرق علمها، من أجل دفع النظام المصري لزيادة مساعدته لفلسطين وجعلها قضيته الرئيسية. لكن منذ سنوات، لم يعد التظاهر متاحاً لا في المؤسسات التعليمية ولا خارجها، وقد أدى ذلك إلى جهل الأجيال الجديدة في مصر بالقضية الفلسطينية وصارت كلمة «انتفاضة» بعيدة عن قاموسها، بعدما كانت جزءاً أساسياً من تاريخ الطالب المصري. وقد تكون آخر التظاهرات المصرية التضامنية مع فلسطين في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2012، حين خرجت مسيرات كبيرة من الجامع الأزهر وحتى ميدان التحرير وسط العاصمة المصرية، ورفع وقتها المتظاهرون لافتات تعادي إسرائيل وتناصر حركة «حماس»، وهتف المتظاهرون وقتها «الشعب يريد تحرير فلسطين» و«غزة غزة أرض العزة».
تكتّم الإعلام على التظاهرات وعلى حادثة قتل سائحين إسرائيليين في الإسكندرية


وقد جاء التكتم على التظاهرات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعة الأميركية حتى لا يعتقد أحد خارج الجامعة أنّ بإمكانه تنظيم تظاهرات داعمة للقضية أو تطالب حتى بتحسين الأوضاع داخلياً، فالرعب من نزول الجماهير إلى الشارع يسيطر على النظام حالياً خوفاً من أي تجمع يطيح به مثلما حدث مع مبارك ومرسي. ولذا، كان التعامل بمنتهى الحزم مع التظاهرات التي خرجت قبل عشرة أيام ضد ترشح عبد الفتاح السيسي لفترة رئاسية ثالثة في محافظة مرسى مطروح شمال غرب القاهرة حتى لا تمتد إلى أماكن أخرى. ونتيجة للتظاهر، وقعت اشتباكات بين الشرطة والمشاركين في الهتافات، وخصوصاً بعد تمزيقهم لافتات ترشح السيسي لمدة جديدة، وقوبلت التظاهرات أيضاً بتكتم شديد، ولم ينشر عنها سوى فيديوات على مواقع التواصل الاجتماعي. وكان المواطنون قد اعترضوا على تحويل احتفال بالذكرى الخمسين للسادس من أكتوبر إلى احتفال تأييد للرئيس المصري الذي يحكم البلاد منذ قرابة عشر سنوات ويطمح للمزيد.
وفي سياق آخر، صدرت تعليمات للمنصات الرسمية بالتوقف تماماً عن التناول الإعلامي لحادث مقتل السياح الإسرائيليين قبل أيام في مصر، واتخذ قرار بالتوقف عن متابعة سير القضية، إذ لم يستطع المحامي المصري محمد رمضان، أن يحضر التحقيقات مع فرد الأمن الذي قتل سائحين إسرائيليين في الإسكندرية، وقال رمضان على صفحته الرسمية على فايسبوك إنه مُنع من دخول النيابة من قبل وزارة الداخلية وقال له الضباط: «روح يا أستاذ محمد». ولم تعد القنوات التلفزيونية تتحدث عن القضية من قريب أو بعيد، وهي طريقة أصبحت معتادة تجاه كثير من القضايا في مصر التي لا يريد لها النظام أن تصل تفاصيلها إلى قطاعات أكبر من الجمهور.