«ومرّة أخرى، مجموعة من الجنود يأسرون فتاة، يغتصبونها ثمّ يقتلونها في ما سيصادف بعد ربع قرن من مولدي، هذا التفصيل الثانوي الذي لا يمكن أن يستهين به الآخرون سيلازمني إلى الأبد رغماً عنّي ومهما حاولت تناسيه، إذ ستبقى حقيقته تعبث بي بلا انقطاع، لما فيّ من ضعف وهشاشة، تماثل هشاشة الأشجار المنتصبة أمامي أمام زجاج النافذة. وربّما حقّاً لا يوجد هنالك ما هو أكثر أهميّة منه، هذا التفصيل الصغير، في سبيل الوصول إلى الحقيقة الكاملة التي لا تكشف عنها تلك المقالة بإغفالها رواية الفتاة»: رواية الفتاة التي اغتصبها الجُند، أو صوت الضحية هو بالضبط ما تسعى الجهة المنظّمة لـ «معرض فرانكفورت الدولي للكتاب» إلى طمسه وإخفائه، عبر إلغاء فعالية التكريم للروائية الفلسطينية المقيمة في ألمانيا عدنية شبلي (١٩٧٤)، عن روايتها «تفصيل ثانوي» (دار الآداب ـــ ٢٠١٧)، الفائزة بجائزة «ليبراتور» بعد ترجمتها إلى الألمانية لأنها وفقاً للجنة التحكيم المسؤولة عن الجائزة «عمل فنّي محترف يعالج مسألة الحدود والصراعات، وما تحفره الصراعات الدموية في كينونة الإنسان». كان مقدّراً أن يُحتفى بشبلي يوم الجمعة وتسليمها الجائزة من الجمعية الأدبية الألمانية في معرض فرانكفورت، وأن تشارك الكاتبة الفلسطينية في عدد من الفعاليات فيه. الكاتبة المتحدرة من عرب الشبلي في فلسطين التي أصدرت عدداً من الروايات، منها «مساس» (٢٠٠٢)، كانت ستمثّل الصوت الصارخ للمعاناة الفلسطينية منذ نكبة ١٩٤٨ وتعرية المزاعم الأخلاقية للكيان الإسرائيلي، ومن يقف بين يديه وأمامه وخلفه على أنه «الديموقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط: إنها ديموقراطية ترشح دماً واغتصاباً وقتلاً كما تبينها شبلي في حبكة السرد المتقنة في «تفصيل ثانوي»: صيف١٩٤٩، تقتل فرقة عسكرية إسرائيلية بدوياً فلسطينياً في منطقة العسكرية في النقب، وتُأسر ابنته القاصر، يعطي آمر الفصيل أوامره بقص شعر الفتاة، وغسلها بالكاز، ثم بالماء، وإلباسها زيّ المجنّدين، ثم التصويت على مصيرها في سهرة المساء: المطبخ أو السرير، ليتناوبوا جميعاً على اغتصابها. في اليوم التالي، تُقتل الفتاة وتدفن، ولإخفاء معالم الجريمة بالكامل، يُنبش قبر الفتاة وتُعدم مرة ثانية للتأكد من موتها. بعد تقرير مقتضب عن الحادثة يرفعه آمر الفصيل إلى قيادته، يذكر فيه قصة الاغتصاب بكلمة والقرار بـ «تسفير الفتاة إلى العالَم الآخَر»، حكمت محكمة إسرائيلية بعد سنتين على الجنود الـ١٨ المشاركين بالسجن أقل من ثلاث سنوات، واستثنت قائد الفصيل من الجريمة، وأدانته فقط بالقتل بحكم يبلغ 15 عاماً قابلة للاستئناف. علَّق بن غوريون على الجريمة: «اتُّخذ القرار، ونُفّذ: غسلوها، قصوا شعرها، اغتصبوها، وقتلوها» في مذكراته العبرية، ثم حذف التعليق من مذكراته الإنكليزية. انتظرت الجريمة الفاضحة أكثر من قرنين ليكشف عنها صحافيان إسرائيليان (٢٠٠٣) في مقالة حملت عنوان: «رأيت من المناسب إزالتها من العالم»، عبر تمويه أسماء المشاركين فيها باستثناء قائد الفصيل، وإعطاء كثير من الأعذار لعناصر «غير منضبطة»، من أفراد عصابات يهودية ستنصهر في ما بعد لتشكّل «جيش الدفاع الإسرائيلي».
تلتقط صحافية وباحثة فلسطينية يصادف تاريخ مولدها بعد ربع قرن تماماً من يوم الحادثة خيط المقالة في بداية رواية شبلي، وتتصل بالأرشيف الإسرائيلي، وتبدأ رحلة فتح الجرح الذي ينزّ دماً من حينها ورشّ الملح عليه، مستعملة كل قوة الأدب والرواية في كتابة التاريخ البديل لفلسطين الذي يزلزل الوعي الغربي الزائف، الذي يغطي لدولة العدو جرائمها كاملة، ويقلب موقعي الجلّاد والضحية. رئيس «معرض فرانكفورت» يورغن بوس ـ كما صرّح في بيان حَجب التكريم ــ يريد في هذا الظرف الاستثنائي «إفساح المجال لعدد من الأصوات المؤيدة للصهيونية»، أي إلى أصوات الجنود الـ١٨ الذين اغتصبوا الفتاة في الرواية. كما أن صحيفة «تاز» الألمانية اتهمت شبلي بتوزيع البقلاوة احتفاء بـ «بالمجزرة» وسط «قطع حماس لرؤوس الأطفال الإسرائيليين». كما أنّ اتهامها بمعاداة السامية دفع ببعض الأعضاء إلى الاستقالة من اللجنة، ولكنّ بعض الأصوات القليلة العاقلة في الغرب لم تفقد صوابها بعد، كرئيسة «نادي القلم» في برلين والمتحدثة باسمه الروائية إيفا ميناسه، التي اعترضت بالقول إن الرواية «لن تصبح مختلفة وفقاً لمعايير الجودة الفنية إذا تغيّرت عناوين نشرات الأخبار، فإما هي تستحق الجائزة أو لا». اعتراض ميناسه الخجول يضيع وسط هدير الطائرات، وحاملاتها تغطي على ثكنة عسكرية مزروعة في قلب منطقتنا لتغتصب كل يوم فتاة اسمها فلسطين، وقد قررت اليوم أن تقاتل المغتصب وأولئك الغربيين الشقر من خلفه بأظافرها وصواريخها ولحمها العاري.