في عام 1991، ألقت طائرات أميركية من نوع «أف 17»، قنابل «ذكية» (وهو توصيفٌ قذرٌ وقبيح للغاية لقنبلة) على ملجأ العامرية العراقي. استشهد يومها 408 مدنيين عراقيين: مائتان وواحد وستون امرأة، اثنان وخمسون طفلاً رضيعاً أحدهم كان يبلغ سبعة أيام، فيما كان الباقي من الرجال الكبار في السن. جاء بيان «التحالف الأميركي/ الغربي» آنذاك مصرحاً بجلافة أنه «كان يستهدف مراكز قيادية للجيش العراقي». بعد المجزرة والحرب، أشارت تقارير عدة إلى أنَّ الجيش الأميركي (والتحالف) قد أرسل إشارات عدة للعراقيين بأنَّ «من ينزل إلى الملاجئ سينجو». يومها أثبت العدوان الأميركي أن الكل أهداف، ولو كان حديث الولادة. كان تدمير الملجأ متعمداً وفق مصدرٍ أميركي، إذ إن طائراتهم ظلت تحوم فوق الملجأ ليومين كاملين.

(كارلوس لطوف ـــ البرازيل)

أول من أمس، قصفت صواريخ العدو الصهيوني «مستشفى المعمداني» في غزّة. في بداية الأمر اعترف الصهاينة عبر ناطقهم الشبه-عسكري (para-military) »اليوتيوبر» المعروف حنانيا نفتالي (توصيفه الفعلي المتحدث الرقمي باسم إسرائيل» Israel’s Digital Spokesperson) الذي غرّد عبر موقع أكس: «سلاح الجو الصهيوني ضرب قاعدة لـ «حماس» الإرهابية في قلب مستشفى في غزّة. عددٌ كبيرٌ من الإرهابيين قد قُتلوا. إنه أمرٌ يقطع القلب أن تستخدم «حماس» المستشفيات، والمساجد، والمدارس لإطلاق صواريخها، فضلاً عن المدنيين كدروع لها». وأرفق تلك التغريدة بهاشتاغ «حماس هي داعش». مرّت دقائق؛ وسرعان ما ظهر عددُ الشهداء الحقيقي: كان «مستشفى المعمداني» واحداً من آخر المستشفيات الصامدة في القطاع المحاصر، لذلك فإن صواريخ الصهاينة لم تدمره فحسب، بل إنها قتلت ما يقرب من 500 شهيد. رقمٌ يجعل مأساة ملجأ العامرية العراقي ضئيلاً أمامه. المشكلة بحسب سلافوي جيجيك أنّ المآسي لا تُحتسب بالأرقام، بل بالأثر الذي تحققه. هذه المرّة، كان الرقم هائلاً، ما استوجب محو التغريدة سريعاً، وإطلاق تغريدة أخرى تنفي الأولى، تتبرأ منها، وترمي باللائمة على «حماس»، ثم على «الجهاد الإسلامي». وفي تغريدة على صفحة «الوحدة الإيرلندية» (Irish Unity)، نُشرت قصاصةٌ من صحيفة قديمة منذ عام 2004 بعنوان: «أسلوب إسرائيل في العلاقات العامة». شرحت القصاصة طريقة الصهاينة في التعامل مع المجازر التي تتسبب فيها:
«1- ضحايا؟ نحن لا نعرف أي شيءٍ عن ذلك، سنحقق في الأمر.
2- نعم هناك ضحايا، لكنهم قتلوا بواسطة صاروخ أو قنبلة فلسطينية.
3- نعم، نعترف. لقد قتلناهم، لكنهم كانوا إرهابيين.
4- نعم، لقد كانوا مدنيّين، لكنهم كانوا يستخدمون كدروعٍ بشرية.
5- نعم، صحيحٌ لم يكن هناك مقاتلون في المنطقة، إنه خطأنا، لكننا نقتلهم بالمصادفة، أما الفلسطينيون فإنهم يقتلونهم قصداً.
6- نعم نحنُ نقتل مدنيين أبرياء، لكن اترك هذا وانظر كم هي الدول الأخرى سيئة.
7- لماذا تتحدث في هذا الموضوع كثيراً وما زلت؟ هل أنت عدوٌ للسامية؟»
هذه القصاصة الورقية كانت بمثابة خريطة طريقٍ لإيضاح كيفية عمل الصهيوني فعلياً، وهو ما فعله بالحرف.
لكن قبل الولوج إلى ما فعله الصهيوني لاحقاً، يجب التوقف عند مقال «بي. بي. سي»، التي أوردت تغريدةً تبدو كأنها إجابةٌ على سؤال، تسأل فيها بوقاحة وغطرسة كبيرين: «هل تبني «حماس» أنفاقاً تحت مستشفيات ومدارس غزّة؟». مجردُ سؤال قد يبدو روتينياً أو عادياً بالنسبة إلى غير المتابع أو غير المحترف إعلامياً من قبل قطب الإعلام البريطاني. لم يكن هذا الأمر مجرّد سؤال، لقد كان مشابهاً لـ «تحويم/ تحليق» الطائرات الأميركية فوق ملجأ العامرية على مدى يومين قبل المجزرة (وللمفارقة bbc استبقت الجريمة بقرابة اليومين). لقد كان هذا نوعاً من التمهيد الإعلامي للضربة الصهيونية القادمة.

يافطة مكتوب عليها: «عذراً فإنّ الولايات المتحدة لم تستطع تقديم النظام الصحي المجّاني لكم، إذ اضطروا لمنح 3.8 مليارات دولار لقتل الأطفال الأبرياء»

بعد الضربة وظهور صور الشهداء والضحايا وهول المجزرة، سرعان ما بدأ الصهيوني يلملم خطأه وقذارته: أطلق حنانيا تغريدة ثانية تنفي تغريدته السابقة التي محاها. لقد قرّر أن يغير الخطاب: «الانفجار المجهول في غزّة»، فجأةً أصبح الانفجار «مجهولاً» بلا أبٍ وأم. وأكمل: «تلوم «حماس» إسرائيل على هذا. أظنُ أن هذا إما صاروخٌ فشلت «حماس» في إطلاقه أصاب المستشفى، أو أنه حدثٌ مدبّر بهدف الحصول على دعمٍ دولي». إنه ذات ما ورد في خريطة الطريق السابقة، وتحديداً في النقطة الثانية. ولتأكيد نظريته التآمرية الخيالية، شارك «اليوتيوبر» الشهير صهيونياً فيديو نقلاً عن قناة «الجزيرة» القطرية يظهر نقطةً مضيئة في الفضاء تضلّ طريقها وتقع، ما يبدو كما لو أنها صاروخ أو قنبلة كبيرة. سرعان ما تلقف دانيال هجاري الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال البروباغندا، مشيراً إلى أنَّ «الجهاد الإسلامي» مسؤولٌ عن الصاروخ الذي أصاب المستشفى في غزّة. «المطبّل» الصهيوني المعروف بين شابيرو، كان لا بد له من أن يدلي بدلوه في المعمعة: «يجب أن نكون واضحين. إرهابيون فلسطينيون حاولوا إطلاق صاروخ على إسرائيل، فوقع منهم وأصاب مستشفى وقتل مئات العرب الفلسطينيين. لامت «حماس» إسرائيل، وسرعان ما تلقف الإعلام القصة التي أرسلتها «حماس». هذا فعلاً ما حدث».
لاحقاً، بدأت ردات الفعل الصهيونية المرتاعة والخائفة عبر محاولة تبرير أنهم لم يقوموا بالمجزرة الحالية، فغرّد يائير ليبيد، رئيس الوزراء الصهيوني السابق، وباللغة العربية على صفحته العبرية، كأنما كان يحاول «مخاطبة الجمهور العربي»: «بعد تحليل الأنظمة العملياتية ، تبين أنّ «مستشفى المعمداني» في غزة قُصف بعد رشقة صاروخية كثيفة وفاشلة من قبل «الجهاد الإسلامي» نحو إسرائيل مرت من محيط المستشفى. هم لا يقتلون فقط أطفالنا، بل يقتلون أطفالهم أيضاً».
مهّدت bbc للمجزرة بمقال بدأته بسؤال: «هل تبني «حماس» أنفاقاً تحت مستشفيات ومدارس غزّة؟»


الصحافي الأميركي جاكسون هينكل، الذي بات على ما يبدو متخصصاً في فضح الصهاينة، أشار في تغريدته: «إسرائيل تكذب مجدداً، هذا الفيديو قد ظهر قبل ساعةٍ من حدوث الضربة الجوية وتظهر بوضوح إشارته إلى الساعة 18:59 بالتوقيت المحلّي. أما الضربة الجوية فقد وقعت في الساعة 19:50»، مؤكداً على فارق التوقيت. هينكل عاد وكتب لاحقاً تغريدةً أظهر فيها حجم الضربات الصهيونية: «قصفت إسرائيل المستشفى الأردني الميداني هذا الأسبوع. قصفت إسرائيل مستشفى الأونروا هذا الأسبوع، وقتلت ثلاثين تلميذاً و11 موظفاً أممياً. قصفت إسرائيل مستشفى مسيحياً (يقصد مستشفى المعمداني)، وقتلت أكثر من 500 مدني»، وختم بتوصيفٍ حقيقيٍ ودقيق: «إسرائيل دولةٌ إرهابية».

عرّى السوشال ميديا الكذب الصهيوني الذي شارك فيديوات تعود إلى عام 2022، مدّعياً أنّها لمجزرة «المستشفى المعمداني»


من جهةٍ أخرى، بدا أنّ كذب الصهاينة، عصيّ على التصديق هذه المرة، فغردت الصحافية الأميركية المعروفة آبي مارتن: «لا يمكن لأي صاروخ فلسطيني أن يتسبّب في المذبحة والموت الجماعي الذي رأيناه في ذلك المستشفى. لقد شمت المسؤولون الصهاينة وتباهوا بالأمر قبل أن ينفوه». وهذا ما كان قد فعله حرفياً، رئيس تحرير صحيفة «جيروزالم بوست»، آفي ماير، وهو ضابط في الاحتياط الصهيوني، مؤكداً أن كل ما يصدر من أخبار عن غزة غير صحيح، «لأن وزارة الصحة الفلسطينية تابعة لـ «حماس»، وإذا كانت تابعة لإرهابيين فإن قصف منشآتها الطبية هو أمرٌ طبيعي بشكلٍ أو بآخر». بدوره سخر الممثل الأميركي جون كوشاك من الأمر عبر تغريدته مشيراً إلى أنّ «قنبلة من «حماس» تستهدف مستشفى في غزة؟ هذا افتراءٌ جنوني». أما بنجامين فوغل الباحث ومدير النشر في مركز البحث «آلاميديا»، فغرّد: «كم هو عدد الصحافيين الغربيين الذين سيذيعون هذا الكذب الصريح في الساعات المقبلة؟». بدوره، غرّد الأستاذ الجامعي مارك أوينز جونز، معرّياً ما تفعله الصحافية في «آي 24» الإسرائيلية ناديا نفتالي، حين أشار إلى أن نفتالي تشارك فيديوات قد نشرتها «الجزيرة» في عام 2022، مشيرةً إلى أنها حالية، ثم عادت ونشرت فيديو آخر «مدعيةً» أنه لعملية إطلاق الصواريخ الفاشلة.
باختصار، إنها عملية إبادةٍ جماعية يمارسها الصهاينة بمباركة أميركية وأوروبية، وفي الوقت نفسه يحاولون تغطية عريّهم المقزّز بأوراق توتٍ إعلامية مستخدمين كل ما يستطيعون، من الكذب على السوشال ميديا، إلى التأييد الغربي المطلق لهم، لكنّ حجم المجازر أكبر من أن يغطّى!

Does Hamas build tunnels under hospitals and schools?



The mysterious explosion in Gaza


الناطق باسم جيش الاحتلال هجاري:


تغريدة شابيرو:


تغريدة يائير ليبيد:


تغريدة آبي مارتن:


تغريدة جون كوشاك:


تغريدة فوغل:


تغريدة مارك أوين جونز: