«من وراء الشمس»، وعلى وقع «الطوفان»، يبرز غسان كنفاني (1936 ـــ1972) في مسرحية «غزال عكا»، لتُعاد أمامنا ذاكرة الشتات واللجوء والتشرّد، التي تشكل مدخلاً أساسياً للعبور إلى أفق فلسطين التي دوّنها غسان بكلماته. في وقت تشهد فيه فلسطين أكبر انتفاضة لها في وجه الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود، قدمت مسرحية «غزال عكا» (نص وتمثيل: رائدة طه. إخراج: جنيد سري الدين) الأسبوع الماضي في «مسرح المدينة» (الحمرا). العمل عبارة عن فصول من حياة الروائي والصحافي الفلسطيني الشهيد على شكل «بورتريه» لجوانب مختلفة من شخصيته، ليكون بمثابة مادة توثيقية، تتناسق مع الإطار السياسي والنفسي والاجتماعي الذي تشهده المنطقة، ما يزيد من المساءلة حول جرائم الاحتلال الإسرائيلي، رغم أن زمان العرض والتحضير له وموعده، كان سابقاً لمعركة «طوفان الأقصى». يأتي عرض «غزال عكا»، على شكل استقصاء للواقع، الذي يقول حوله الفرنسي باتريس بافيس: «لم يعد تسجيل الكلمات والصور دليلاً على درجة المصداقية، بل يبتدع المسرح طرائق تخييل للوصول إلى الواقع». انطلاقاً من ذلك، صوّرت المسرحية عوالم غسان كنفاني بشكل متخيّل، ومقتضب، ومكثّف، تمكّن من صناعة عالم يحفّز خيال المتفرّج ويحثّه على الاستقصاء عن الواقع الذي كان يحكم حياته. فالعمل على المادة التوثيقية، يبدو أنه تمّ ضمن خيار تاريخي ذاتي وفريد، لتمييز الحقائق، وصدّ محاولات طمس الحقيقة.
لم يقدّم العرض على أساس ملحمة تاريخية، ولم يضع غسان كنفاني ضمن فئة «التقديس». لم يقدمه مثقفاً كلاسيكياً، بل مثقفاً جديداً، يعاني من داء السكري، ويحمل الشوكولا في جيبه دائماً، ويهدم الحتميات، يحب الجلسات الصاخبة، لا ينام كثيراً، يسهر، يرقص، يسمع الموسيقى، في محاولة دفاعه عن شكل الحياة، «التي تبدو على هذا النحو» بحسب اعتقاده. ولم يقدم العرض ضمن تسلسل زمني أو وفق أحداث تراتبية، بل تداخل الخط الزمني، ما سمح للمتفرجين بتحليل الرواية وربط أحداثها وسياقاتها، في خضم العبث، والعنف، والمأساة، التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. حتى إنَّ حادثة اغتيال غسان كنفاني كانت في الجزء الأول من العرض، ولم تأخذ شكلاً مخففاً من العنف، بل استشرس التجسيد، في نقل فظاعة اللحظة، وظهرت دموية الاحتلال وعبثيته. ضمن مفردات وأفعال متكررة، وإحساس عميق، تمكّن جنيد سري الدين، ومعه رائدة طه من إظهار لحظة الموت في أرفع تجلياتها، خصوصاً أن كنفاني لم يتآكل شيئاً فشيئاً، بل عبر إلى الضفة الأخرى من الحياة، بفعل آلة قتل الاحتلال وممارساته الدموية.
طوال العرض، تنقلت رائدة طه، من دون أي إنذار، بين السرد والتجسيد. لعبت الممثلة الفلسطينية أدواراً متعددة، من دون أي استقرار أو نظام عام. سردت فصولاً من حياة كنفاني، وتنقلت في عوالم الشخصيات التي كانت في حياته. كل ذلك حقّق ما تصبو إليه النصوص المسرحية الجديدة، التي تبتعد تماماً عن التراتبية في السرد والتجسيد. والأهم من ذلك كله، ابتعادها عن تحقيق التماهي مع المتفرجين. لم يكن الهدف إظهار عالم من السحر والإيهام الذي يحقق التطهير لدى المتفرج، بل كانت الممثلة، في كل مرة، تخرق انتباه الحضور. الصوت على سبيل المثال، نقل عبر الميكروفون، كيفية تحضير المسرحية ونقلت رائدة طه جزءاً مقتضباً من تفاصيلها على الملأ. الأزياء رسمية (أبيض وأسود) تشبه زيَّ غسان ربما، ولم يكن هدفها تقمّص شخصيته. كلها خيارات خفّفت من الإيهام المسرحي. على مستوى الأداء التمثيلي أيضاً، تميزت رائدة طه بنقل إحساس عميق ودفين بالظلم الذي لم يزل الإنسان الفلسطيني يتعرّض له إلى اليوم. عبر الفعل المقرون بالأحاسيس الدفينة، اختصرت معاني الفقدان، والظلم، والمواجهة. أما في ما يخص الأداء الجسماني، فقد أظهرت رائدة طه حرفية وخفة في التنقل في الفضاء المسرحي، وتأطيره ليكون عالماً صاخباً ومفعماً بالحركة وعدم السكون، كما كانت حياة غسان، على الأرجح.
نهاية على وقع رثاء محمود درويش: «أيها الفلسطينيون احذروا الموت الطبيعي»


قد يكون أكثر غرض سينوغرافي حاضر، لكنه غير ظاهر، هو البرتقال وما يحمله من رمزية. المسرح الفقير، الذي عمل عليه المخرج، سمح لمخيّلتنا بالعبور نحو بساتين فلسطين، التي شكلت ثيمة أساسية في العرض، كونها ترمز إلى العودة. الاقتضاب السينوغرافي، جعلنا نسرح في البيئة الفلسطينية، ونعيش تجربة تعبق برائحة الأرض التي تمثل حق البقاء. كل الأدوات السينوغرافيّة في نهاية العرض تناثرت على الخشبة، للدلالة على الشتات، كأن الأوراق الزرق تتحول لتصبح وثائق الفلسطينيين خارج أرضهم، أو تتحول الأحجار الصغيرة إلى قطرات من الدموع... لكن قد يكون العرض أفرط في الشرائط الموسيقية التي بُثت لفترات طويلة خلال العرض، وأصبحت وظيفتها استثارة العواطف، في منحى يتضارب مع ما يكرّسه العرض.
انطلاقاً من ذلك، تنقل المسرحية جملة من معاني الحياة، والإنسانية، والبقاء في وجه الاحتلال. لكن يبدو جلياً أنّ المعنى الأبرز الذي تكرّسه هو أن مصير الإنسان الفلسطيني مقرون بالمواجهة حتى استرجاع الأرض تماماً كما كانت قناعة غسان كنفاني. في مشهد النهايات، تتحول كل الأغراض، إلى عربة، تجسّد مشهدية التهجير والطرد الجماعي. تتجمع كل الأغراض على الطاولة، وتعبر بنا من فلسطين، إلى رأس الناقورة جنوب لبنان، لتبدأ رحلة تهجير أهل غسان كما آخرين، تاركين خلفهم حقول البرتقال الذي يشكّل مذاق فلسطين. نعود مع رائدة طه، بسيارة غسان كنفاني التي فجّرها الاحتلال، إلى فلسطين، على وقع رثاء محمود درويش، «أيها الفلسطينيون احذروا الموت الطبيعي... إنّ أشلاء غسان كنفاني عندما تناثرت تكاملت مع فلسطين»