على مدى أسابيع، انتظر العالم بأسره كلمة قائد المقاومة في لبنان، مثلما لا ينتظر قادة أعظم الدول. شخصت الأنظار إليه، حتّى ممّن لم يسمعوا له خطاباً يوماً. البثّ المباشر للقنوات تحوّل إليه. القنوات اللبنانية جميعها، والعربية بغالبيّتها، والعالمية بعدد كبير، كلّها على اختلاف توجّهاتها نقلت كلمة الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله يوم الجمعة الماضي. القنوات الناطقة بغير العربية استدعت المترجمين. البثّ المباشر على يوتيوب وحده حظي بملايين المشاهدين، فنال بثّ «الجزيرة» فقط قرابة 500 ألف متابع و«الميادين» قرابة 400 ألف، فما بالك بالبثّ الفضائي. حتّى «العربية» و«الحدث» و«Sky News عربية» وRT بنسختَيها العربية والإنكليزية بثّته مباشرةً. ربّما كان أكثر الخطابات متابعةً في العالم منذ سنوات.في لبنان، كان الترقّب في الأيّام السابقة للخطاب على قدم وساق، والحركة في البلد على كفّ عفريت، ما انعكس ضجّةً إعلاميةً. لكنّ الهمروجة هذه لم تكن وليدة المصادفة. تضافرت مجموعة من العوامل لاسترعاء اهتمام هذا الكمّ من وسائل الإعلام والناس، أبرزها الخوف الأميركي والإسرائيلي والغربي الذي طغى قبل الخطاب، ما انعكس على الإعلام الغربي وبالتالي بعض الموالين للغرب في لبنان ممّن اقتنعوا وأقنعوا جماهيرهم بأنّ المقاومة ستشعل حرباً شاملة، مبثّين الرعب في نفوس الناس، ولا سيّما أولئك الذين لا يتابعون السياسة بشكل عامّ، ولا يعرفون الكثير عن المقاومة وطرق تفكيرها وعملها. أسهمت هذه الحالة العامّة في حشد اهتمام أكبر لخطاب نصرالله.
ركب الإعلام اللبناني موجة الهستيريا للإفادة منها في استعادة شيء من زخمه. منذ صباح الجمعة، فتَحت قنوات عدّة البثّ المباشر من الحدود مع فلسطين المحتلّة ومختلف أماكن نصب الشاشات، حيث احتشد الجماهير في الضاحية الجنوبية والبقاع والجنوب. في السياق، عرضت LBCI تقريراً حول تفاعل الناس المتواجدين هناك مع الخطاب وأخذت آراء بعضهم. لكنّها «لحفظ ماء وجهها» عادت وعرضت مباشرةً بعد التقرير «نكاتاً» نُشرت على مواقع التواصل استهزأت بالخطاب، وهي في كلّ الأحوال نتيجة «الخذلان» بعد الشحن والتضخيم اللذَين سبقا الخطاب، رغم تأكيد نصرالله أنّ المقاومة في لبنان دخلت المعركة منذ 8 تشرين الأوّل وتهديده الواضح للكيان والولايات المتّحدة. على أيّ حال، عادت القناة وعرضت تقريراً يرصد تلقّف الخطاب لدى إعلام العدوّ.
على ضفّة mtv، التزمت القناة بنقل مجريات اليوم باتّزان، قبل أن تنفجر «غضباً» مفتعَلاً في مقدّمة نشرتها المسائية في محاولة يائسة لانتقاد الخطاب عبر إيجاد أيّ حجّة يمكنها رميها لجمهورها، مهما كانت عشوائية أو غير مقنعة. قرّرت أنّ هذه المرّة الثانية التي يقول فيها نصرالله «لم أكن أعلم»، في إشارة إلى قوله إنّ عملية «طوفان الأقصى» كانت فلسطينية مئة في المئة وتلميح إلى نفيه سابقاً علم حزبه بوجود موادّ متفجّرة في مرفأ بيروت. «لاحظت» أنّ نصرالله «لم يأتِ على ذكر فرنسا»، فخرجت بأحد «استنتاجاتها» التي لا تتعلّق بأيّ تحاليل واقعية، وكذلك فعلت إزاء عدم ذكره «الدولة اللبنانية ومؤسّساتها»، إذ «استنتجت» أنّه يقول «الأمر لي». «لاحظت» أيضاً «وصف» نصرالله «إسرائيل» بأنّها أداة أميركية، معتبرةً أنّها طريقة للهروب، كأنّه لا يقول الأمر ذاته دائماً. وممّا ورد في المقدّمة: «نصرالله برّأ حزب الله، ومن ورائه إيران، من علمهما المسبق بعملية السابع من تشرين الأوّل، إذ أكّد أنّ عملية «طوفان الأقصى» مسؤوليتها فلسطينية مئة في المئة، كأنّه يقول للمرّة الثانية: «لم أكن أعلم»! كلّها عوامل ومعطيات تثبت أنّ الأمين العام لحزب الله يدرك خطورة المرحلة ودقّتها، ولا يريد بتاتاً إعادة عقارب الساعة في لبنان إلى عام 2006. والدليل على صحّة الفرضية المذكورة أنّ نصرالله وجّه سهامه إلى الأقسى والأقوى نحو أميركا لا نحو إسرائيل، حتّى إنّه صوّر تل أبيب على أنّها مجرّد أداة في يد واشنطن لا أكثر ولا أقل. لكنّ المستغرب أنّ الأمين العام للحزب الذي هاجم أميركا والعرب والعالم بالجملة والمفرّق، حيّد فرنسا من هجومه، وحتّى من انتقاده». وأضافت: «ما سبب موقفه يا ترى؟ هل لأنّه يعوّل على دور فرنسي ما يلاقي المسعى القطري في الوساطة بين إسرائيل والفلسطينيّين؟ في المحصّلة، خطاب نصرالله المنتظر منذ أربعة أسابيع، جاء عنيفاً في الشكل، لكنّه ليس كذلك في المضمون. إنّه خطاب يغلب عليه الوصف والتبرير على الموقف والقرار».
نشر موقع «الكتائب» خبراً كاذباً يرمي إلى بث الفتنة


وفي مقدّمة نشرتها مساء السبت، عادت mtv إلى التهويل على اللبنانيّين والمشاركة في الحرب النفسية عليهم، هذه المرّة باستخدام تصريحات الولايات المتحدة التي اعتبرت القناة أنّها «ردّت بحزم» على نصرالله، كأنّها تحتفي بذلك. أعادت تشغيل معزوفة «قرار الحرب والسلم» التي تطرب آذان الكتائبيّين، كأنّها مصرّة على اعتبار العدوّ حمامة سلام لا يريد شيئاً من لبنان إذا لم يتمّ استفزازه، فيما هو يمعن قتلاً ودماراً في الجنوب اللبناني ويحرق آلاف أشجار الزيتون. وممّا ورد في المقدّمة: «في لبنان، تغييب حسن نصرالله في خطابه أمس الدولة اللبنانية بكامل مؤسّساتها وأجهزتها كانت له تردّداته اليوم. إذ استنكرت معظم القوى السياسية الأمر، واعتبرته بمثابة رغبة واضحة لإلغاء أيّ دور للدولة اللبنانية ولتحكّم حزب الله كلّياً في قرار الحرب والسلم. الولايات المتّحدة الأميركية ردّت بحزم على نصرالله، معتبرةً أنّ أيّ توسيع أو تصعيد لرقعة النزاع بين لبنان وإسرائيل قد يتحوّل حرباً أكثر دموية من حرب 2006، وشدّدت على أنّ التدمير المحتمل الذي سيلحق بلبنان وشعبه لا يمكن تصوّره». أصرّت القناة أيضاً على استخدام عبارة «قواعد الاشتباك»، وهي النسخة الملطّفة من «توازن الردع».
أمّا «المنار» فبدأت مقدّمتها مساء الجمعة بأسلوب شاعري بعض الشيء، مثنيةً على كلمة نصرالله ومؤكّدةً نصرتها للبنان كما فلسطين. وفي مقدّمتها مساء السبت، قالت «إنّها الخيارات المفتوحة التي أطبقت على الصهاينة، فزادت قياداتهم إرباكاً ومستوطنيهم ضياعاً، وباتوا عالقين بين فكَّي «الوضوح الغامض» للأمين العامّ لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله. «إنّه ذكاء الخبير المحترف»، قال كبار قادتهم السابقين، الذي شكّل أكبر دعم للفلسطينيّين مع استنزاف الجيش العبري على جبهتَين، وتطويقه بالرسائل والإشارات من اليمن وسوريا والعراق، وضبط كلّ المواقيت والاحتمالات على أساس الميدان في غزة، ما يجعل الخيارات بحقّ مفتوحة على كلّ الاتّجاهات».
يمكن القول إنّ التغطية على «الجديد» وOTV وNBN و«تلفزيون لبنان» كانت متشابهة إلى حدّ ما وموضوعية. بالنسبة إلى «الجديد»، فهي تحاول في الفترة الأخيرة ألّا تثير استفزاز أحد، بل تواظب على ترميم صورتها كداعمة للقضية الفلسطينية والمقاومة، فأدرجت النقاط التي عرضها نصرالله وأخذت آراء الحشود (مثلما فعلت LBCI) وبثّت تقريراً عنهم، فيما واظبت على تقارير تلمّع صورة دول الخليج وتبرز «جمع المساعدات لأهل غزة». بدوره، عرض «تلفزيون لبنان» أبرز النقاط، بادئاً مقدّمة نشرته مساء الجمعة كالتالي: «غموض ووضوح حرب أو لا حرب. تناقض مقصود ومدروس بعناية صاغ به أمين عام حزب الله خطابه الذي تابعه العالم بأسره عصر اليوم طارحاً بذلك الغموض المزيد من التساؤلات إلى جانب العديد من الرسائل الموجّهة إلى الصديق والعدوّ». وبعض ممّا ورد في مقدّمة نشرة OTV مساء السبت: «رسم كلام الأمين العام لحزب الله أمس حدّاً فاصلاً بين مرحلتَين: أولى عنوانها التوقّعات غير الواقعية والمبالغات غير المنطقية عند بعض الوجوه، وثانية محورها الكلام المسؤول والتخطيط الدقيق والرؤية الواضحة لاتّجاه الأمور، قياساً على تطوّر الحرب في غزّة أو ارتكاب العدوّ لأي حماقة ضد لبنان. لبنانيّاً، قوبل الخطاب بارتياح شعبي عامّ، عبّرت عنه غالبية القوى السياسية التي وصفت مضمونه بالمسؤول والموزون والواقعي، وفي طليعتها «التيار الوطني الحرّ» و«الحزب التقدّمي الاشتراكي»، فيما غرّد «حزب القوّات» بعد «الكتائب» خارج السرب الوطني، حيث رأى النائب فادي كرم عبر الـOTV أنّ السيد نصرالله وضع لبنان «ستاند باي»، لا أكثر ولا أقل. أمّا على المستوى الإسرائيلي، فأثار خطاب الأمين العام لحزب الله خشيةً إضافية بعدما ترك الباب مفتوحاً على مختلف الاحتمالات، إذ تبارى سياسيّو الكيان العبري وإعلاميّوه في تحليله، والتوصّل إلى استنتاجات متضاربة، صبّت في أكثرها خارج مصلحة العدو. وعلى المستوى الدولي، فعل كلام السيد نصرالله فعله، ولا سيما ما يتعلق بإعداد العدة لمواجهة حاملات الطائرات إذا اقتضى الأمر، إذ أفرغ الموقف الجازم كل التهديدات الغربية من أي مضمون».
افتراضيّاً، تصدّر الخطاب المواقع، وخصوصاً مع حالة الهستيريا المختلقة ورغبة اللبنانيّين بمعرفة «إذا في حرب». وسادت مواقع التواصل حالة تأييد للخطاب، فيما ظهرت أصوات كثيرة تسخر من الواقع وكيف أنّ اللبنانيّين تحضّروا للحرب ليتبيّن «ألّا حرب» (وفق اعتقادهم)، فيما راحت أخرى تستهزئ به، وهي بغالبيّتها من مناوئي المقاومة وبعضها يعود لغير لبنانيّين. وبرز خبر كاذب صباح السبت نشره موقع «الكتائب» على صفحاته، فوضع مقطعاً لأفراد إحدى العشائر في منطقة الليلكي وهم يطلقون النار في الهواء بوجود الجيش، مع تعليق: «جمهور حزب الله يطلق النار عن قصد فوق رؤوس عناصر الجيش اللبناني ويستفزّ بعض الوحدات الموجودة على الأرض». هكذا، استغبى موقع «الكتائب» جمهوره رغم ظهور راية في المقطع تدلّ على العشيرة، فابتلع بعضهم الطعم فيما راح كثر يفضحون ما قام به الموقع، وخصوصاً أنّه صاغ الخبر بطريقة خبيثة محرّضة على الفتنة.