قد يكون الحديث عن الموضة في ظلّ حرب إبادة إسرائيلية تطال الشعب الفلسطيني وقاحة وانعداماً في الإحساس. لكن الأزياء لم تكن يوماً منفصلة عن الحروب، لا بل إنّ هذه الأخيرة طبعت عالم صناعة الموضة في كثير من الأحيان، ووجهت أذواق الشعوب وخياراتها. كما أنّ الملابس ليست مجرّد قطع قماش، بل هي تعبير عن ثقافة وهوية الشعوب، ورمز لنضالها ومقاومتها. وقد تكون تصاميم كثيرة ممهورة بتواقيع أبرز المصممين العالميين ملطّخة بدماء الأبرياء، ولا ننس طبعاً مسألة في غاية الأهمية تتعلّق بتسليع زيّ يُعد رمزاً من رموز شعب وتاريخه. يُشير ابن خلدون في مقدمته إلى أنّ «المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده». يقين ابن خلدون بسلوكيات المغلوبين لا يسري على الفلسطينيين الذين حافظوا على زيّهم وكوفيّتهم كرمز لنضالهم، لا بل نجحوا في تحويلها إلى رمز عالمي للمقاومة والصمود.
خضعت «لوي فيتون» للضغط الشعبي وسحبت الشال المستوحى من الكوفية

في عام 2021، اتُهمت دار «لوي فيتون» بـ «الاستيلاء ثقافياً والمتاجرة» بالكوفية الفلسطينية عبر طرحها شالاً مستوحى منها، يزيد سعره عن 700 دولار أميركي حينها. هناك من رأى أنّه وراء هذه القطعة أهدافاً مخفية وأنّها كانت باللونين الأزرق والأبيض، على غرار العلم الإسرائيلي. أضف إلى ذلك أنّ توقيت طرحها للبيع كان مثيراً للريبة، إذ تزامن تقريباً مع انتهاء معركة «سيف القدس». وقد نجحت الحملة الكبيرة ضد الدار الفرنسية والدعوات إلى مقاطعتها إلى سحب الشال من البيع.
يبدو أنّ محاولات التصدّي للكوفية الفلسطينية لم تتوقف، نظراً إلى ما ترمز إليه من نضال وصمود. فقد حظّرت سلطات ولاية برلين الألمانية ارتداءها في المدارس، متذرعةً بأنّها قد تشكل «تهديداً للسلام». هنا، تعود إلى الذاكرة كلمات مغنية الراب البريطانية الفلسطينية الأصل، شادية منصور، عقب إطلاق أغنيتها الشهيرة «الكوفية العربية». قبل أداء العمل على مسرح نيويوركي، قالت في إشارة إلى محاولات إسرائيل الحثيثة لسرقة تراث الفلسطينيين وغيرهم من الشعوب العربية: «يمكنك أن تأخذ الفلافل والحمص الخاص بي، لكن إيّاك وكوفيّتي».
اليوم، تعود المقاومة الفلسطينية إلى الواجهة عبر عالم الأزياء، لكن هذه المرّة من باب الهجوم الذي يتعرّض له العديد من الباعة عبر موقع «أمازون» الذين يعرضون ملابس مطبوعاً عليها بالإنكليزية عبارة: «من النهر إلى البحر، فلسطين حرّة». شعار وضعته مجموعات يهودية موالية للصهيونية في إطار «معاداة السامية»، مطالبةً الموقع بمنع بيع هذه البضائع كونها «ترمز إلى الدعوة للقضاء على إسرائيل»، غير أنّها لم تستجب، وفق ما ذكرت مجلة «نيوزويك» الأميركية.
لم تكن هذه المرة الأولى التي تحاول فيها إسرائيل وداعموها منع بيع ملابس تدعو إلى تحرير فلسطين. في عام 2017، نشرت جريدة The Times of Israel الإسرائيلية خبراً بعنوان «رغم الانتقادات، موقع «أمازون» يواصل بيع مجموعة ملابس تدعو إلى تحرير فلسطين»، مشيراً إلى انصياع شركات، كـ «وولمارت» و«سيرز»، لطلب استبعاد الملابس التي تشمل هذه العبارة من موقعها. وفي سياق المقاومة عبر الموضة وتحويل اللباس إلى أداة مواجهة وتعبير، هناك مروحة واسعة من العلامات الفلسطينية التي تسعى للحفاظ على تراث الأزياء الفلسطينية ودعم المجتمع الفلسطيني عبر مستويات شتى.

من منتجات PurePali

من هذه العلامات PaliRoots التي يرمز اسمها إلى «الجذور الفلسطينية». تأسست عام 2016 وتختصر مهمّتها بـ «توعية العالم إزاء الثقافة الفلسطينية عبر صناعة منتجات متخصصة مستوحاة من شعبها وهويتها»، وفق موقعها الإلكتروني. تؤمّن العلامة التجاريّة مجموعة منتجات كالملابس والقبعات والكوفيات والمجوهرات والصابون التي ترمز إلى جوانب مختلفة من فلسطين. لا يقتصر عمل هذه «البراند» على البيع والترويج لفلسطين، بل يشمل أيضاً الأعمال الخيرية، إذ تتبرّع بوجبة غذاء واحدة لطفل محتاج مقابل كل طلب يتم تسجيله. وبعد الطلب الأوّل، يتم التبرع بوجبة مقابل كلّ 25 دولاراً تُنفق. كذلك، تنظّم الشركة حملات توعية هادفة في مجالات عدّة، فيما نجحت لغاية الآن في تأمين مبلغ 3 ملايين و400 ألف دولار لتأمين المياه النظيفة، وزرع الأشجار، وتأمين الألعاب للأولاد، وأدوية العلاج الكيميائي لمرضى السرطان، وغيرها من الأمور.
وهناك أيضاً شركة KURVD التي تأسست عام 2018 وتكشف عبر موقعها أنّها عقدت «شراكة مع منظمة Human Concern International لدعم ثلاثة برامج مجتمعية تدعم التعليم، والقضاء على الجوع وسوء التغذية، والإغاثة في حالات الطوارئ. تسهم بنسبة 10 في المئة من كل عملية شراء في مشروع من اختيارك عند تسجيل المغادرة».
وعلى خطٍ موازٍ، تبرز شركة West Bank Apparel المولودة في عام 2014 وتؤمّن منتجات منوّعة من الملابس والمجوهرات والبطانيات والديكور المنزلي. وتكشف الشركة أنّها تدعم على مدار العام «الحملات التي تساعد اللاجئين والأيتام الفلسطينيين بشكل فعال، عبر منظمات مثل IRUSA، وPCRF، والأونروا. يتم التبرع بما لا يقل عن 10 في المئة من الأرباح لهذه البرامج».
تحاول إسرائيل وداعموها منع بيع ملابس تدعو لتحرير فلسطين


ومن العلامات التجاريّة الفلسطينيّة التي تدمج ما بين الفن والأزياء ودعم قضايا الشعب الفلسطيني، نذكر أيضاً PurePali، وWatan، وSunbula، وHandmade Palestine...
إزاء المجازر التي ترتكبها قوّات الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من شهر في غزّة، التزمت معظم دور الأزياء العالميّة الصمت. لكن هذا المشهد العام خرقته بعض الاستثناءات المتمثّلة في شركات لم تتوان عن إظهار دعم واضح لإسرائيل، متجاهلة معاناة الفلسطينيين تماماً، أبرزها «دار شانيل» الفرنسية. وفق مذكرة داخلية كشفت عنها مجلة Women's Wear Daily، تعهّد المديرون التنفيذيون في الدار الفرنسية بدفع مبلغ أربعة ملايين دولار أميركي لدعم جهود الحرب الإسرائيلية. كما أظهرت علامة American Eagle مثلاً دعمها الصريح للكيان الصهيوني، عبر نشر صورة للعلم الإسرائيلي على لوحتها الإعلانية الرئيسية في ساحة «تايمز سكوير» النيويوركية.
أثارت عارضتا الأزياء الأميركيتان من أصول فلسطينية، الشقيقتان جيجي وبيلا حديد، غضب إسرائيل وداعميها بسبب مواقفهما المؤيدة للشعب الفلسطيني، التي وصلت إلى حد إمطارهما وعائلتهما بتهديدات القتل واتهامهما بـ «معاداة السامية». وذكر موقع TMZ الشهير، أن تهديدات القتل التي تلقتها عائلة حديد، بسبب دعمها لفلسطين، كانت جدية ومثيرة للقلق، إلى درجة اضطرتها إلى اتخاذ إجراء قانوني سعياً للحماية، واللجوء إلى «مكتب التحقيقات الفيدرالي».
من ناحيتها، أعلنت شركة «ماريان أباريل» الهندية، إحدى الشركات الرئيسية التي تزود الشرطة الإسرائيلية بحوالي 100 ألف زي رسمي سنوياً منذ عام 2015، عن إنهاء عقدها مع شرطة الكيان «لأسباب أخلاقية»، عقب مجزرة «مستشفى المعمداني» في غزة. وقال المدير التنفيذي للشركة، توماس أوليكال، إنّه «سنوافق على استئناف أعمالنا التجارية (مع إسرائيل) عندما يعود السلام»، مضيفاً أنّه في حال فشل ذلك، فإنّ شركته ستنفذ عقدها الحالي الذي ينتهي في كانون الأوّل (ديسمبر) المقبل، لكنّها لن تجدّده.