«نابليون رجل كنت مفتوناً به دوماً. لقد جاء من العدم وحكم كل شيء. لكنه طوال الوقت كان يخوض حرباً رومانسية مع زوجته الخائنة جوزفين. لقد غزا العالم ليحاول كسب حبها، وعندما لم يستطع، غزاه ليدمّرها، ودمّر نفسه معها». بهذا التصريح، أفصح ريدلي سكوت (1937) بأنّ فيلمه عن نابليون بونابرت ليس فيلم سيرة نموذجياً، ولا قصة أخرى «من المهد إلى اللحد». لقد وجد المخرج البريطاني نقطة مثيرة للاهتمام في سيرة الزعيم الإمبراطور الشهير، سيبني حولها صراعاً درامياً. انبهار سكوت بنابليون واضح عبر كلماته، لكنه جاء غير مسلّح إلى ساحة المعركة السينمائية. لذلك، يصعب بعد مشاهدة فيلم «نابليون» أن نقول ما الذي قد يكون قد نال إعجاب سكوت بشأن قصة نابليون.
واكين فينيكس في مشهد من العمل

كشف سكوت أخيراً أنه في حديث مع ستانلي كوبريك (1928 – 1999)، بخصوص مشروع الأخير الكبير الذي أمضى سنوات في محاولة إنجاز فيلم عن نابليون، بأنه لم يكن قادراً على إنهاء حلمه لأنه لم يكن ممكناً تصوير 66 معركة كما كان ينوي. توفي كوبريك من دون أن يحقق حلمه بتصوير تلك الملحمة العظيمة. بالنسبة إلى سكوت، كان يكفي أن يصوّر هو ثلاث معارك، إضافة إلى مشهد المعركة الإشكالية في مصر، ليثبت أنّه بارع عندما يتعلق الأمر بتصوير مشاهد الحرب. وهذا شيء يمكننا أن نؤكده ليس في هذا الفيلم فقط، بل في سينماتوغرافيا سكوت كلها بداية مع The Duellist (1977) مروراً بـ«بلايد رانر» (1982)، و«غلادييتر» (2000)، وصولاً إلى «مملكة السماء» (2005)، و «المبارزة الأخيرة» (2021)، وجديده «نابليون». المشكلة في أنّ مشروعاً مثل «نابليون»، يتطلب أكثر بكثير من مجرد الدم والسيوف والبارود. يتطلّب قصة ضخمة وكثيفة، وفقاً لكلمات سكوت نفسه. في فيلم «نابليون»، لا شيء من هذا القبيل، أو على الأقل في الفيلم الذي يُعرض حالياً في الصالات السينمائية، الذي يبلغ طوله ساعتين ونصف الساعة (في انتظار نسخة المخرج على «أبل تي في» قريباً التي تبلغ مدتها أربع ساعات). في النسخة الأولى من الفيلم، وقع سكوت في مصيدة «منتصف الطريق»، بين فيلم معارك ملحمي وحروب وغزوات، وبين فيلم مؤلف يبرز تعقيدات شخصية الجنرال الفرنسي. كلتا الفكرتين كانتا لتنجحا بشكل منفصل، لكن سكوت حاول القيام بالأمرين معاً من دون تحقيق أي منهما. لسوء الحظ، «نابليون» فيلم غير مركّز، إلى درجة أنه لا يمكن أن يأسرك في مدة عرضه. يندفع عبر التاريخ، وسرعان ما يصبح الأمر مربكاً. بين المكائد السياسية، والمعارك، والظروف الاجتماعية في فرنسا بعد الثورة، وشخصية نابليون وعلاقة الحب المعقّدة، يفقد الفيلم مساره بشكل متزايد بتعامله مع كل شيء في الوقت نفسه. كل شيء يبدأ عام 1789، في خضم الثورة الفرنسية وإمبراطورية المقصلة، وسيستمر حتى وفاة نابليون عام 1821، عن عمر ناهز 51 عاماً بين القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين. يصوّر سكوت العلاقة المتغيرة بين نابليون (واكين فينيكس) بزوجته جوزفين (فانيسا كيربي)، التي طلّقها بسبب عجزها عن إنجاب وريث له لضمان نسله. بين هذه العلاقة التي يتخلّلها خضوع وسيطرة، حب واحتقار، خداع وخيانة، روابط روحية وتلاعب، يبني سكوت بقية فيلمه بتجميع أعظم نجاحات الإمبراطور العسكرية والسياسية: مشاركته في الثورة الفرنسية، نجاحه العسكري الأول (الاستيلاء على حصن كان يسيطر عليه الإنكليز في تولون)، ترقياته، عبقريته كخبير إستراتيجي حربي، تنصيب نفسه كإمبراطور، إعادة إحياء المعارك الشهيرة مثل أوسترليتز أو واترلو، والحملة الكارثية على روسيا، إلى المنفيين القسريين. ساعتان ونصف الساعة يقفز فيها الفيلم من محطات وأحداث تاريخية إلى أخرى بلا سلاسة، كأنها مشاهد طويلة بلا صلة، فيصبح الفيلم كأنه مقطع دعائي طويل لنسخة المخرج التي تبلغ الأربع ساعات.
يبدأ الفيلم بإعدام ماري أنطوانيت بالمقصلة في «عهد الإرهاب» في فرنسا، وسيطرة اليعاقبة على الاتفاقيات الإنكليزية الفرنسية، ما يهدد مصالح فرنسا. يقدم سكوت نابليون على أنه سيف الثورة القادر على قمع التمرّدات الملكية في شوارع باريس بنيران المدفعية وإبادة القوات الإنكليزية على أرض الوطن. يقدّمه كشخصية منطوية حزينة وشجاعة، ولا يقدم دوافعه ولا يشارك مشاعره. لا شيء من مشاعره المعادية للفرنسيين بسبب أصله الكورسيكي أو وضعه كلاجئ، فهو يقدم نفسه منذ اللحظة الأولى كشخصية متجانسة وغير قابلة للكسر. يقدم سكوت جوزفين الغامضة والجذابة، وعلاقتها غير التقليدية بالجنرال، التي تتطور بشكل منفرد، على الرغم من أنّها لا تمتزج بشكل جيد مع بقية الحبكات التي تتطور في الفيلم. وكما هي الحال مع نابليون، يصعب فهم الدوافع التي تحرك بقية الشخصيات أو سبب وقوع حدث تاريخي معين. الشخصيات الثانوية التي ظهرت في الفيلم لها ثقلها التاريخي، لكنها كانت مجرد كومبارس هنا، ولم يستطع سكوت خلق أعداء لبونابرت أكبر من نابليون نفسه.

فانيسا كيربي بدور جوزفين

فيلم سكوت، تستحوذ عليه فكرة السلطة وتعزيزها واستدامتها وفقدانها، ويتضمن أيضاً نوعاً من الفكاهة بسبب علاقة الزوجين وتبادل الرسائل المستمرة بينهما، ولحظات بصرية مهيبة. لذلك، يبدو الفيلم غير منتظم، أقل استفزازاً وجرأة بكثير مما وعد به. لكن في مشاهد عدة، وخصوصاً مشاهد الحرب المبهرة، يُظهر سكوت موهبته الهائلة. هناك ثلاث معارك طويلة وكبيرة موضوعة بشكل إستراتيجي في كل ثلث من الفيلم. الأولى هي الاستيلاء على قلعة، وكسر حصار تولون. والثانية معركة أوسترليتز، والثالثة، واترلو. يقدم سكوت صوراً تجعلك تتمنى أن تكون الشاشة أكبر حجماً لتقدير هيبتها ونطاقها بشكل كامل، وخصوصاً معركة أوسترليتز حيث حوّل سكوت البحيرة المجمّدة إلى «مقبرة للعدو»، ومشهد احتراق موسكو. هناك صعود وهبوط وتناقضات في الفيلم، ويبدو واضحاً فشل السيناريو الذي كتبه ديفيد سكاربا في إعطاء الأهمية الكافية لنابليون نفسه. لا يتمتع ما يظهر على الشاشة دائماً بالوزن الكافي ليصبح عاملاً حاسماً في سلوك الجنرال. يصوَّر نابليون على أنه رجل متعصّب ومصاب بجنون العظمة، يعرف كيفية الإفادة من سياق الأحداث السياسية والاجتماعية. أما السرد، الذي بالكاد حافظ على صرامة تاريخية معينة وجدول زمني أكاديمي، فيتخلى على الفور عن الزخم الغريب الواعد الذي يصوّر به في البداية الطبقة الأرستقراطية، والنظرة الوحشية التي يُعالج بها النزعة الانتقامية في المجتمع الفرنسي. يستغني عنه وعن العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المهمة جداً في حياة صعود نابليون، للتركيز على علاقة الجنرال الزوجية، تاركاً صعوده العسكري والسياسي مجرد قصص. إنّ الدوافع والظروف التي دفعت نابليون إلى أن يصبح الجنرال العظيم والإمبراطور، تشير إليها الشخصيات الأخرى، لكن بغض النظر عن كثرة تكرار كلمات مثل «الطموح»، فإنها لا تتطور أبداً. يشرّح سكوت حياة الإمبراطور «الكورسيكي» في صعوده وسقوطه، لكن من دون أن يطمح إلى الغوص في سيكولوجية أفعاله بما بتجاوز الطموح والانتهازية.
صور تجعلك تتمنى أن تكون الشاشة أكبر حجماً، وخصوصاً معركة أوسترليتز


إن كون الممثل الأميركي واكين فينيكس «وحش تمثيل» أمر لا جدال فيه، لكن هناك جدال حول ما إذا كان تمثيله دور الجنرال الفرنسي هو الأنسب. صحيح أنّ الشخصية التاريخية كانت منعزلة ولم تكن منخرطة في التظاهرات الكبيرة، ولكن ليس معقولاً أيضاً أنه طوال الفيلم، يبدو غير متعاطف، وسط غياب أي مشاعر سعادة أو غضب حتى في المواقف القصوى. يصل التحكم بالمشاعر إلى حد أن واكين فينيكس يحافظ على الإيماءة الكئيبة والنظرة المفقودة نفسها في معظم اللقطات. فقط في الجزء الأخير من القصة، يظهر إنساناً تحت الزي الرسمي وقبعة الـ bicorn، حتى فانيسا كيربي في دور جوزفين تبدو كأنها شبح، ليس بسبب أداء الممثلة الذي يعد من أفضل أجزاء الفيلم، لكننا بالكاد نستطيع تفسير وفهم شخصيتها. بعد كل شيء، لا يضيف سكوت جديداً، ولا يعطي درس تاريخ حتى، وهذا يعيدنا إلى السؤال الأول: ما الذي أراده سكوت من قصة نابليون؟ صنع سكوت فيلماً عن نابليون من دون أن يُظهر حوافزه الكامنة وراء جشع السلطة المطلقة، وإخضاع نصف العالم. لا يطرح أي سؤال، ويدافع عن رؤيته الفنية بالقول: «هناك 2500 كتاب عن نابليون. لذلك عندما يكون هناك الكثير من الكتب عن شخص ما، يكون هناك الكثير من الغموض، والتخمينات، والخيال المضاف». لكن يصعب تصديق حتى كلمات سكوت، وما يريد إيصاله عبر الفيلم.
في نهاية الفيلم وقبل تترات النهاية، يشير سكوت إلى كلمات نابليون الأخيرة قبل وفاته: «فرنسا، الجيش، جوزفين». هذا لم يكن محض مصادفة لأن سكوت حاول عبثاً استخدام الأسماء الثلاثة بالتفاوت لرواية الفيلم بخيوط متعددة. لكن قبل ذلك، يشير الفيلم إلى شيء أراد سكوت الإضاءة عليه بكلمات قليلة لأنه لم يعرف كيفية التعبير عنه في الفيلم أو ربما فشل في ذلك. يسرد المشهد الأخير عدد الجنود الفرنسيين الذين قضوا في حملات نابليون الشهيرة، المعروفة باسم الحملات المنتصرة، ليخرج برقم مذهل: «النجاح» و«المجد» كلّفا حياة ثلاثة ملايين شخص. عادة ما يُطلق التاريخ على الشخص المسؤول عن مقتل ثلاثة ملايين شخص، اسم مجرم لا جنرالاً منتصراً. ربما هذا ما أراد سكوت قوله في الفيلم كله، ولم يعرف التعبير عنه فكتبه بأحرف. سكوت ينظر إلى نابليون على أنّه غزا العالم فقط بسبب حبّه لجوزفين. فكرة جيدة، لكنها لم تكن كافية ولا واضحة لكامل الفيلم.

* Napoleon في الصالات اللبنانية