بدأ فيلم باسم بريش، عندما انتهى. عندما تمكّن من أسلوبه إلى حد ما، ووجد أخيراً شيئاً من ضالته، ونجح في الإمساك ببعض الخيوط وربطها، ليصنع لنا آخر خمس دقائق من فيلمه «بركة العروس». لكن لسوء الحظ، لم يكن هناك مجال لإكمال فيلمه، فقد انتهى، احتلّ السواد الشاشة، وأُنيرت الأضواء، وهممنا بالذهاب إلى المنزل. ربما وصل بريش إلى باكورته الطويلة الأولى متعباً للغاية، من دون الخفة اللازمة، فبدأ فيلمه، كأنه خطأ بطيء، حاول إصلاحه في الدقائق الأخيرة. فيلم «أنجأ بيحكي»، «أنجأ بيتحرك»، «أنجأ بيتنفس». حاول المخرج اللبناني أن يفرض أسلوبه على فيلمه، لكن انتهى به الأمر بأن فرض الفيلم أسلوبه البليد عليه. فكّر بريش كثيراً في فيلمه، وفي كل لقطة وكل مشهد وكل كلمة، لذلك بدا شريطه كأنه محاولة غير مقنعة، تمرين غير مكتمل، خربشات أفكار... نسي فيها المشاعر واتكل على التقنيات، فجاءت قصته غير متطوّرة، ثقيلة بعض الشيء، سطحية أحياناً، ودائماً متضعضعة داخل قالبها، وتُركت فيها الأشياء طائفة على السطح. تراكم الأفكار والرمزيات والاستعارة وغياب الأحاديث يعكسان انطباعاً بوجود سرد متكبّر أو حتى متعجرف، ومع بساطة القصة أو حتى عدم وجودها، يتسلّل الملل إلينا.طريق جبلي متعرّج، نشاهده من الأعلى. إنها أعماق بلدة الشوف، حيث الجمال الريفي أخّاذ وخادع. داخل السيارة، ثريا (أمية ملاعب) العائدة إلى قريتها، لا تبدو سعيدة. عادت في الجزء الثاني من الفيلم، إلى سجنها المجتمعي، إلى بيت الأسرة. تعود في الدقيقة الأربعين (مدة الفيلم 78 دقيقة). في البيت والدتها سلمى (كارول عبود)، التي كنا معها منذ بداية الفيلم: امرأة مطلّقة في مجتمع محافظ، حافظت على استقلاليتها وبيتها، رغم علاقتها بوهيب (ربيع الزهر) المتزوج. لديها طقوسها الخاصة، سلامها الداخلي، رسمت حدودها الخاصة، والجميع يحترمها. عودة ثريا، مطلقة وحامل تعيد التصادمات الأسرية، والقلق الوجودي، والمستقبل المجهول والمزعزع، وتفرض عليهما إعادة استكشاف الصلة التي تربطهما.
كل هذه المثالية والسنتيمترية، في هندسة اللقطات، جعلت الفيلم يبدو مشكوكاً فيه


يدور «بركة العروس» حول أقدم القصص التي عرفتها البشرية: علاقة الأم بالابنة. يحاول تصوير الحياة الجنسية الأنثوية والإجهاض، وعوالم المرأة الداخلية، في ميلودراما جافة، داخل إطار مبلّل. يشبه الفيلم تلك الورقة المبلّلة التي تلتصق بكل شيء. وبعد مرور وقت، تثير الغضب، ونريد التخلص منها بأي شكل من الأشكال. أرادنا بريش، داخل عقل شخصيتيه وفي ركنهما الحميم، حاول تعريفنا إليهما، لنفهمهما ونتفهّمهما، لكنه نسي أن يزيل الحاجز بيننا وبينهما. في المجمل، مشكلات شخصيتَي الفيلم هي نتيجة الهروب من البوح بأي شيء، وهذا انعكس على الفيلم نفسه، الذي لا يبوح لنا بشيء يجعلنا ندخل إلى المكان الذي أرادنا بريش داخله. هندم بريش لقطاته إلى درجة أنه أغلق المدخل إلى شخصياته. وضع حداً للأفق وحسّن استخدامه واستخدام إطاراته، لكنّ هذا لا يكفي. كل هذه المثالية والسنتيمترية، في هندسة اللقطات، جعلت الفيلم يبدو مشكوكاً فيه، أي إن بريش نفسه لم يكن مقتنعاً بما يريد أن يقوله، وكيفية سرد القصة، فلجأ إلى التقنيات، في محاولة منه لإبهار عيوننا فقط. حمّل فيلمه وقصته أكثر مما يحتملان، وكل هذه الجدية في سردها، أدت إلى تكرار مفرط ودوران حول لا شيء.
الثقل الرئيس يقع على الشخصيات، وعلى الرغم من أن الشخصية التي تلعبها كارول عبود ليست غريبة عليها، إلا أنها بدت في الفيلم كأنها فقدت تعابير وجهها، وهذا ليس بسببها، بل بسبب الفرض التقني الكبير الذي وضع باسم فيلمه وشخصياته فيه، وكلماتها المنطوقة لا تخرج بطلاقة. الطريقة التي يسمح فيها بريش لشخصياته بالتدفق في فيلمه، منعتنا كمشاهدين من التواصل معه ومعها من دون كلمات. يتحرك الفيلم ببطء دائماً، وكاميراته الثابتة لا تتحرك وإن تحركت فببطء شديد (تصوير نديم صوما)، لا تعكس أي شيء، والمشاهد التي بُنيت بعناية لم تؤت ثمارها، حتى الموسيقى والأغاني المستعملة بدت كأنّها في غير محلها.

كارول عبود وربيع الزهر في الفيلم

استعمل باسم كل ما لديه كي يبهرنا، ولكن ليس كل ما يلمع ذهباً، الكلمات المنطوقة تموت حين تُقال، والمشهد الجديد يقتل المشهد الذي قبله لعدم ترابطهما. مثلاً المشهد التي وقفت فيه سلمى وثريا أمام بركة العروس، جاء من لا مكان، كأنه موجود في الفيلم فقط ليخبرنا عن قصة اسم الفيلم. جاء المشهد بلا سياق، كمعلومة ضرورية وكفى. حتى المونتاج جاء ثقيلاً، ففيلم مماثل يحتاج إلى بعض المرونة والحيوية في الإيقاع كي يكسر الجمود الناتج عن كل شيء. في معظم الوقت، نشاهد المرأتين من الخلف أو عبر انعكاسات المرايا، كأننا نشاهد شيئاً محرماً بكاميرا تنظر من مسافة إليهما، والأماكن التي تمرّان بها، والمواقف اليومية. امرأتا باسم بريش عاديتان، حمّلهما أسئلة وجودية، في فيلم حاول جاهداً أن يكون شيئاً، لكن من دون جدوى، وفي قصة لا تقول أكثر مما يمكن أن تظهره. لم نشعر بالمعاناة الحقيقية، فالقصة هي فقط تأملية بسيطة لا ترتقي إلى مستوى «صراعات» امرأتيها المفترضة.
لا جدال في عشق المخرج للطبيعة. فيلمه يدور مع خلفية طبيعية لا حدود لها، مع صوت الرياح، وزيز الليل وطقطقة النار. بل إنّه يسقطها على شخصياته وقصته. أهوال الطبيعة تسقط على حيوات أهل القرية. لكنه خط سردي غير متماشٍ مع التطور الدرامي على وقع الطبيعة. فمعظم الفيلم هو مشاهد طبيعية كأننا نشاهد قناة «ناشيونال جيوغرافيك»، فتصبح هذه الطبيعة محور الفيلم عوضاً عن الشخصيات، لا بل إنها الفيلم بحد ذاته. يشبه أسلوب باسم بريش، أسلوب غسان سلهب (شارك في كتابة الفيلم)، في فيلم يدور في حلقة من الرموز والمراوغة، وغارق في الصرامة التشكيلية والشكلية، ومبالغ في أفكاره. شريط ملتزم بأداء استعاري، يسير بلا هدف، وداخله قصة ثقيلة ومملّة، ونبقى نحن وباسم بريش وثريا وسلمى نحارب من أجل رغبة خاصة لكل منا، ولكن لم ولن يتم إشباعها.

«بركة العروس» على +Osn