في صباح يوم السابع من كانون الأوّل (ديسمبر)، انتصر الموت على أمير الأشقياء، فغادر العالم، متألّماً، حزيناً، بعدما لم يعد دماغه قادراً على استيعاب كل هذه البشاعة التي ترتكب باسم حق مزعوم للكيان العبري في الدفاع عن نفسه. عدوّ الإمبراطوريّة، ونصير الطبقة العاملة، والمقاتل الدائم من أجل العدالة، سيذكره الشعراء الملونون في الغرب الذين منحهم الشجاعة ليكون لهم صوتهم الخاص بهم، كما ملايين القرّاء ممّن تذوقوا الشعر للمرة الأولى بوصفه مادة للثورة، ومداداً للغضب، لا مجرّد نوع رفيع من أدب النخب. وسيذكره أيضاً الفلسطينيون، الذين قرر بعد زيارة بلادهم عام 1988 أن يفعل كل ما في وسعه، في ما تبقى له من العمر، لدعم قضيتهم.

«أغضب عندما أسمع كلمة «إمبراطورية». إنها تذكرني بالعبوديّة، وآلاف السنين من التوحّش»
(بنيامين سافنيا)


تسابقت الصّحف البريطانيّة ـــ المعروف أنّها تعبّر حصراً عن أشواق النخبة الحاكمة المهيمنة ــــ إلى نشر مقالات رثاء وداعيّة للشاعر البريطانيّ بنيامين سافنيا (1958 -2023) على نحو قد يدفع بعضهم للاعتقاد بأنّ أمير صعاليك الشعر، وكبير الأشقياء في المشهد الأدبيّ الأنغلو-ساكسونيّ، كان شخصيّة مرضيّاً عليها من المؤسسة الثقافيّة الرسميّة في المملكة المتحدّة. لكنّ الحقيقة تكاد تكون نقيض ذلك تماماً. فهو وإن فرض موهبته الشعريّة على الجميع عبر تجمهر القرّاء كباراً وصغاراً من حول أعماله إلى درجةٍ اضطرت معها السلطات، في مراحل مختلفة، لمجاملته ومحاولة استمالته، فإنّه كان وقبل أي شيء، مناضلاً واضحاً كشمس، عدوّاً للإمبراطوريّة، ونصيراً للطبقة العاملة، وخصماً للعنصريّة، ومقاتلاً دائماً من أجل العدالة.
من دون شكّ، ستذكره الأجيال الجديدة من الشّعراء الملونين في الغرب لأنّه منحهم الشّجاعة ليمتلكوا صوتهم، كما ملايين الناس العاديين ممن تذوّقوا الشّعر للمرة الأولى بوصفه مادة للثورة، ومداداً للغضب، لا مجرّد نوع رفيع من أدب النخب يلقيه مهرّجو البلاطات الملكيّة في الأعياد وحفلات افتتاح كأس العالم لكرة القدم. ولكن سيفتقده أيضاً العمّال والفقراء والمهمّشون والمضطهدون في كل مكان: من بيرمنغهام، مسقط رأسه، مروراً بأفريقيا والصين وكوريا الشماليّة ونيكارغوا وإيرلندا، وانتهاء بغزّة التي كان زارها في عام 1988، وغادر العالم حزيناً على أهلها الودودين بعدما لم يعد دماغه قادراً على استيعاب كل هذه البشاعة التي ترتكب باسم حق مزعوم للاحتلال في الدفاع عن نفسه.
وُلد صاحب قصيدة الأطفال الشهيرة «كن لطيفاً مع الدّيوك الرومية في عيد الميلاد» في 15 نيسان (أبريل) 1958 لمهاجرين من جامايكا في الكاريبي. جاءت والدته لينيف فاليتا هونيغان إلى بريطانيا بحراً، لكنّه لم يعثر على اسمها في أيّ من السجلات الرسميّة لتلك المدة. وعندما سُئل عن ذلك، قال: «إما أنّ ذاكرتها خانتها، أو لعلها كانت مهاجرة غير شرعيّة. وفي الحالة الأخيرة، ينبغي القول إنها قامت بعمل رائع، وأنا فخور بها للغاية». عملت والدته كممرضة في مدينة بيرمنغهام (شمال غربيّ لندن)، وهناك التقت بوالده ساعي البريد، بربادوسي أوزوالد سبرينغر، وفيها وُلد بنيامين سافنيا ونشأ.

شارك بين عامَي 2013 و 2022 كممثل في مسلسل «بيكي بلايندرز»

طفولته كانت قاسية رغم قرب والدته منه وتعلّقه بحب اللّغة والقافية منها. إذ شُخّص بأنّه يعاني من عسر القراءة، فتعطّل تعليمه المدرسيّ وترك المدرسة في سن الـ 13 غير قادر على القراءة أو الكتابة، وأصبح والده عنيفاً مع والدته، ما انتهى بهما مع أخوته الثمانية الآخرين إلى العيش مشرّدين، وهو بالكاد أدرك العاشرة من العمر، فترافق مع أولاد الغجر والإيرلنديين الفقراء، وانجرف إلى ارتكاب الجرائم الصغيرة، وصراعات العصابات، وسجن مرات عدة. على أنّ تلك الظروف صنعت أيضاً باكراً وعيه العابر للأعراق وألوان البشرة، وأسّست لفهمه العميق للطبقيّة، وعمّدت تصميمه للكفاح من أجل المساواة والعدالة، ومواجهة التمييز العنصري وسوء المعاملة في كل مكان.
في خلفيّة كل ذلك، بدأت موهبته الشعريّة بالتفتّح، نظماً وأداءً في أجواء موسيقى الريغي، والبانك، والكوميديا البديلة. وفي أعقاب مذبحة «الصليب الجديد» المشؤومة التي أودت بحياة 13 شاباً أسود في هجوم يُعتقد أنّه عنصريّ الدوافع، أصدر أغنية «ثلاثة عشر شهيداً» التي أصبحت نشيداً لغضب الشارع ضد فشل الشرطة في القبض على الجناة. انتقل (في 1978) للإقامة في لندن، حيث نشر أول دواوينه (إيقاعات قلم - 1980)، وكان يقنع فرق العاصمة الموسيقية بأن تسمح له بإلقاء قصائده قبل مباشرتها العزف. على مدى العقود الأربعة التالية، أبدع ونشر مئات القصائد التي تخاطب الراشدين كما المراهقين والأطفال، فأحبّها المتلقّون لصدقها البالغ، ومزاجها المتمرّد، وموسيقاها الداخليّة المبهرة، ونكهتها الجامايكيّة، ناهيك بطريقته الفائرة في إلقائه لكلماتها أمام الجمهور. لم يكتب قصيدة واحدة غير مقاتلة: إن لم يكن عن قضايا العنصريّة ضدّ السود، فعن فلسطين، وإن لم تحرّض على العدالة الاجتماعيّة، فقد شجّعت على مواجهة أزمة المناخ، وهكذا، حتى أصبح شاعر الشعب، ودرّست قصائده في المدارس، فلم يكن يمرّ في زقاق، إلا وتعرّف عليه بعض التلاميذ أو الفقراء أو الغاضبين فتحلّقوا حوله، وعانقوه، كأنه صوتهم تجسّد بشراً.
لم تقتصر موهبته على الشعر والموسيقى، فكتب المسرحيّات والروايات، وصنع أفلاماً وثائقيّة، وتحدّث عبر برامج إذاعيّة، وشارك بين عامَي 2013 – 2022 كممثل (لشخصيّة جيراميا جيسوس) في مسلسل الدراما التلفزيوني الشهير عن عصابات بيرمنغهام «بيكي بلايندرز». كما قدّم (في 2020) برنامجاً تلفزيونياً رائداً، هو «الحياة والقوافي»، الذي استضاف مواهب شعريّة مغمورة وقدّمها للمجتمع البريطاني، وحاز جائزة البافتا المعروفة. وفي عام 2011، استقطبته «جامعة برونيل» في لندن بروفيسوراً للكتابة الإبداعيّة، وبقي مدرّساً فيها حتى وفاته في السابع من كانون الأول (ديسمبر) الحالي عن 65 عاماً. وكان قد نشر مذكراته الشخصيّة في عام 2018 فلقيت رواجاً وترحيباً من القرّاء والنقّاد على حد سواء. وفي استطلاع أجرته «هيئة الإذاعة البريطانية» اختير كواحد من أكثر ثلاثة شعراء مفضّلين في المملكة المتحدة، واختارته جريدة «التايمز» اللندنية كواحد من أعظم خمسين كاتباً في البلاد بعد الحرب العالمية الثانية، وحصل على الدكتوراه الفخرية من 15 جامعة حول العالم.
هذه التجربة المهنيّة المظفّرة بكل مقياس، لم تكن سوى فضاءات تعبير عن انشغاله الأساس: الثورة والغضب، فقَلَب عند جيل كامل من البريطانيين صورة الشاعر المتأنّق المتعالي المألوفة عندهم، ليصبح صعلوكاً متمرّداً، يبتدع خطاباً يقرّع كل ظالم ومهيمن ومحتل وفاسد، حول العالم، من دون أن يصمت، أو يخشى أحداً، أو يعبأ بشيء. لقد رقص سافنيا على الأنغام التقليديّة في نيكاراغوا الساندانستية، ودرّس في جامعات بيونغ يانغ (كوريا الشماليّة) وجوهانسبيرغ (جنوب أفريقيا)، وتدرّب على الكونغ فو في الصين، وتظاهر ضد العنصريّة أمام البرلمان في لندن، وكان حاضراً دائماً في احتجاجات عمّال المناجم في الثمانينيات، وذهب ليلمس بيده تراب فلسطين التي أراد الغرب تغييبها، وأصابته رصاصة بلاستيكية بينما كان مع المتظاهرين في إيرلندا الشماليّة.
تألّقه، واعتراف الجماهير به صوتاً لها، جعل المؤسسة الثقافية الرسميّة في بريطانيا غير مرتاحة له، فحاولت استرضاءه من دون فائدة. تسبّب في جدل كبير في أوساط النخبة عندما رفض في عام 2003 وسام الإمبراطوريّة البريطانية الرّفيع الذي يمنح لأفضل الإنجازات في مختلف المجالات، احتجاجاً على حرب العراق، فدعا توني بلير (رئيس الوزراء حينها) و(جلالة) الملكة «إلى إيلاج الوسام في مؤخرتيهما، ومحاولة التوقف عن الثّرثرة باسم الإمبراطوريّة». وكتب يقول: «إنني أغضب عندما أسمع كلمة «إمبراطورية». إنها تذكّرني بالعبوديّة، وآلاف السنين من التوحّش، وكيف اغتصبت جدّاتي وتعرّض أجدادي لمعاملة بشعة. بسبب مفهوم الإمبراطورية هذا، قادني تعليمي البريطاني إلى الاعتقاد بأن تاريخ السود بدأ بالعبودية، وبأننا ولدنا عبيداً، وبالتالي يجب أن نكون ممتنّين لأننا مُنحنا الحرية من أسيادنا البيض الحنونين. بسبب فكرة الإمبراطورية هذه، لا يعرف السود مثلي حتى أسماءهم الحقيقية، أو ثقافتهم التاريخية الحقيقية. أنا لست من أولئك المهووسين بجذورهم، وأنا بالتأكيد لا أعاني أزمة هوية. هاجسي هو المستقبل، والحقوق السياسية لجميع الناس».
رفض في عام 2003 وسام الإمبراطوريّة البريطانية الرفيع احتجاجاً على حرب العراق

وخاطب بلير باحتقار ظاهر: «لقد كذبت علينا، وما زلت تكذب علينا، وسفكت حلم الطبقة العاملة بمجتمع عادل ورحيم، وأشغلت نفسك بتفاهات الإمبراطورية القذرة». وفي عام 2014، دشّن حملة في إطار منظمة مناهضة للعنصريّة يرعاها سعت لمساءلة الحكومة عن الأساليب العنيفة التي تستعملها الشرطة ضد الملونين، وتثقيف الشبان والمراهقين بحقوقهم عند إيقافهم تعسفيّاً. وهو أمر تفوق فُرصة حدوثه لشاب ملون البشرة في المملكة حوالى 20 مرّة أكثر من الشاب أبيض البشرة. وفي العام الماضي، انتخبته الأكاديمية البريطانية زميلاً فخرياً. وعندما تحدّث إلى جمهوره عن ذلك، قال: «لأكون صادقاً، لم أكن أعرف الكثير عنهم، وأنا على العموم لست برجل المؤسسات الكبيرة. لكن بعض الفنانين والمثقفين الذين أحترمهم حقاً، قالوا إنها فكرة تقدميّة جيدة، وتضع الفنانين والمبدعين على تواصل لتبادل الأفكار، وهذا أمر إيجابي».
أمير الصعاليك زار فلسطين عام 1988، ووثّق رحلته في «وقت الراستا في فلسطين» (1990). بحساسيته المفرطة، التقط سريعاً طبيعة الكيان الصهيوني المزروع في بلادنا، وقال «إنّهم يريدون إزالة الشعب الفلسطيني تماماً عن وجه الأرض»، ووصف جنود الجيش الإسرائيلي بأنهم «مدربون تدريباً متقدماً، ويحملون بنادق قوية جداً، لكنهم يشعرون بالخوف الشديد من بعض الأطفال الفلسطينيين الصغار المسلحين بالحجارة». شاهد سافنيا بنفسه الظروف المروعة (حينئذ) في «مستشفى الشفاء» في غزة، وأجرى على الفور مقارنات مع «معسكرات الاعتقال النازية»، وعبّر عن شعوره بـ «صدمة ثقافيّة» بالغة عندما سمع موسيقى الريغي، التي أبدعها المضطهدون، وهي تُعزف في تل أبيب. وعلى النقيض من العنصرية الصريحة التي تعرّض لها على أيدي الجنود الإسرائيليين، يصوّر سافنيا في «وقت الراستا» دفء الشعب الفلسطيني ولطفه وكرم ضيافته، فيقول: «لقد عاملوني كملك». من بعدها، قرّر أن يقضي بقية حياته في فعل «كل ما بوسعه لمساعدة قضيتهم»، وكتب عنهم في «العودة إلى الجذور» (1995) أغنية «فلسطين اليوم»:
«تهتفون من قمة الجبل، تحيا فلسطين!
في الأغاني والقصائد التي تغنوها، تحيا فلسطين!
في قرع طبولكم، وفي أنغام أعوادكم، تحيا فلسطين!
لقد عرفتم الحقيقة دائماً: إنّ فلسطين ستحيا!».
كان لسافنيا خاتمة اشتهر بها عند إلقاء قصائده، وفي نهاية أحاديثه الإذاعيّة، نصّها «أنا بنيامين سافنيا. أنتم رائعون. وداعاً»
كم سنفتقدك أيها الثوري الفوضوي الرائع. وداعاً.