خلال عطلته، يوم الجمعة صباحاً، كان شلومو يتزشاك يجلس برفقة أصدقائه في منطقة قرب مدرستهم في القدس المحتلة، في طقس شبه يومي، ولا أبعاد في رأسه حول ترف هذه الجلسة. اقترب منهم رجل فلسطيني، وبادر للتحدّث معهم. أخبرهم برحلته من رام الله إلى القدس، لتبدأ رحلة شلومو من الصهيونية إلى دعم القضية الفلسطينية.تبعد رام الله عن القدس حوالى 11 كيلومتراً، إلا أنّه يتعيّن على الرجل الاستيقاظ عند الساعة الرابعة والنصف فجراً، ليصل عند التاسعة صباحاً إلى القدس. صُدم شلومو من المدّة الزمنية الطويلة نسبة إلى المسافة، فشرح له الرجل مسار الرحلة: يمر عبر نقاط التفتيش الإسرائيلية، ويستقل حافلات عدّة، محاولاً الاختيار بين البقاء في الحافلة نفسها مع احتمال طرده منها وإعادته إلى آخر الخط أو البقاء على الخط الذي لا تمرّ عبره الحافلات عند نقطة التفتيش، ليتمكن من العبور وضمان وصوله في الوقت المحدّد، ليتحدث إلى مجموعة من اليهود الصهاينة محاولاً إقناعهم بأنّ الفلسطينيين بشر. كانت هذه الرواية بمنزلة صدمة لشاب في العشرين من عمره، كبر وترعرع على فكرة أنّ الفلسطيني إرهابي يريد قتله. طلب المزيد من التفاصيل، فأخرج الرجل بطاقة هويته، وقال إنّ عليه العودة الآن لأنّ تأخّره يعني عدم تمكّنه من مغادرة رام الله مجدداً. حينها، كانت الساعة لم تتعدَّ الحادية عشرة صباحاً. لكن مع إصرار شلومو على معرفة المزيد، عرض عليه الرجل مرافقته إلى رام الله.
الفكرة الأولى التي راودته أنّه سيُقتل في حال التوجّه إلى هناك، وهو الذي تشرّب أفكاراً عن أنّ الفلسطيني ليس إنساناً وأنّ المقاومة الفلسطينية «تستهدف اليهود»، في وقت يُطرد فيه الفلسطينيون من أرضهم على يد المستوطنين الصهاينة الذين يتشبّثون بنظام الفصل العنصري والتطهير العرقي والإبادة. فما كان من شلومو إلّا أن قرّر الذهاب ليرى بنفسه ماذا خلف الجدار.
كشابّ كبر مع أفكار صهيونية، تعتبر فكرة الذهاب إلى منطقة فلسطينية من دون العودة كجثة عبثيةً جداً. وبالفعل، توجّه الشاب في اليوم التالي إلى «بوّابة دمشق»، المكان الوحيد الذي لم يكن يحقّ له التوجّه إليه عندما كان يرتاد «يشيفا» (مدرسة يهودية دينية تعلّم مصادر الشريعة اليهودية وطرق الإفتاء في الديانة اليهودية)، خوفاً من أن يقتله الفلسطينيون. لحظة دخوله إلى «بوابة القدس»، فهم شلومو ماذا يعني أن تكون فلسطينياً. صعد إلى حافلة فلسطينية حيث بدا الأمر غريباً. اكتشف أنّ نظام النقل العام مختلف، وشعر بأنّ حسّه بالانتماء بات فلسطينياً، بمعنى أنّه شعر بالأمان فيما تبخّر الخوف في داخله فوراً. اعتُبر فلسطينياً لمجرّد ركوبه حافلتهم في مستوطنة استعمارية، فيما عليه أن يمرّ عبر نقطة تفتيش لمدة ساعة ونصف الساعة، مدركاً أنّ هذا الجيش المحتلّ يمكنه أن يفعل ما يشاء به. أما مصدر الحماية الوحيد بالنسبة إليه، فهو جواز سفره الأميركي. لكن رغم ذلك، انتابه شعور آخر بالخوف. يتذكّر الرجل الفلسطيني الستيني الذي كانت تواسيه ابنته، وأدرك كمية الذلّ التي اضطر لتحمّلها وهو لديه امتياز مغادرة رام الله إلى القدس.
في مقطع فيديو يروي فيه كيف تخلّى عن صهيونيته، يعود شلومو إلى لحظة الوصول إلى نقطة التفتيش، حيث ضايقته قوات الاحتلال. ومع الانتقال إلى داخل النقطة، رأى غرافيتي لطفل يحمل «نقافة». بخلفيته اليهودية، اعتبر يومها أنّ القرآن والتوراة متشابهان، ولديهما الصورة نفسها للملك دافيد مع نقافة. مع تقدم الحافلة، رأى أن النقافة تتوجه نحو جندي إسرائيلي، وهنا بدأ يتساءل، من هو دافيد ومن هو جالوت؟ هذه الحجارة التي كان يستخدمها أسلافه لمقاومة القمع، هي نفسها التي يستخدمها الفلسطينيون لمحاربة القمع أيضاً.
في رام الله، جلس في حانة، حيث اقترب منه رجل فلسطيني وتحدّث إليه بهدوء، رغم معرفته بأنّه صهيوني. أخبره بأنّ جزءاً كبيراً من الناس هنا لم يروا القدس يوماً، إذ يجب أن تكون رجلاً يزيد عمره عن 65 عاماً أو امرأة فوق الـ 55 عاماً أو أن يرعاك إسرائيلي لأخذ إذن عمل، وهذا أمر عبثي لأنّ الإسرائيلي لا يعترف بوجود الفلسطيني أصلاً. ثم توجّه الفلسطيني إلى شلومو بسؤال: «ماذا كنت ستفعل لو أنّ الصهيوني الوحيد الذي رأيته في حياتك والتفاعل الوحيد مع اليهود كان مع جنود الاحتلال الذين داهموا منزلك واعتقلوك في منتصف الليل وسجنوك إدارياً ورموا قنابل مسيلة للدموع على منزلك وقطعوا عنك الماء والكهرباء واعتقلوا عدداً من أصدقائك ومن ثم قتلوك؟» هنا، أجاب بحدية: «إذا كنت تعتقد أنّني لن أقاوم بكل ما أوتيت من قوة لأحرّر نفسي من هذا الجحيم الاستعماري، تكون موهوماً. كيف تجرؤ أن تطرح عليّ مثل هذا السؤال؟ هل تعرف تاريخ أسلافي؟ هل تعلم من أين أتيت؟ هل تعرف نسبي؟ جدّي نجا من أوشفيتز».
يؤكّد أنّ مسار التحرير طويل، يبدأ بوقف إطلاق النار وينتهي بإعادة الدولة الفلسطينية كاملة


لا تفصل السردية الغربية بين اليهود والصهاينة، لعدم سحب شرعية إسرائيل في الوجود. في المقابل، يعمل بناة الخطاب الفلسطيني إلى الفصل بين اليهودية والصهيونية، بين مجموعة دينية وجدت في التراث العربي وعاشت في المجتمعات العربية، كأي مجموعة دينية أخرى، وبين الصهيونية كمشروع استعماري لتقاسم دول الشرق الأوسط بين الفرنسيين والإنكليز. ورغم كل الضخ على مستويات مختلفة، تخرج أصوات معارضة من قلب كلّ هذا السواد.
الناشط شلومو يتزشاك، أحد أبرز الوجوه اليهودية على مواقع التواصل الاجتماعي. يدعو إلى تحرير فلسطين ويهاجم إسرائيل ككيان وعقيدة، حتى قبل العدوان المستمرّ على غزّة منذ 84 يوماً. وُلد وكبر في القدس المحتلة كصهيوني متشدّد، وتعلّم في مدرسة دينية قومية للذكور، وكانت لديه أسئلة عن السكّان خلف الجدار. يتابعه على إنستغرام أكثر من 55 ألفاً، وعلى تيك توك أكثر من 35 ألفاً. يشكّل حالة متفرّدة اليوم كشخص رفض الصهيونية من داخل مجتمعها. يتخذ من حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي منبراً لمخاطبة العالم حول القضية الفلسطينية، وتفصيل العقيدة الصهيونية، والنضال من أجل تحرير كل الأرض الفلسطينية.
لا يعترف بوجود دولتين، إذ إنّ هناك دولة فلسطين. أما الكيان الإسرائيلي، ففُرض بالقوة. يعلم أنّ المسار التحريري طويل. يبدأ بوقف إطلاق النار، وينتهي بإعادة الدولة الفلسطينية كاملة، وهذا مطلب تخلى عنه العرب والقادة الفلسطينيون أنفسهم.
يندهش شلومو من سؤال الناس عن جدوى المقاومة الفلسطينية، ما يشكّل في رأيه دليلاً على جهل الناس بماهية الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي، كما أنّه ينمّ عن قلة احترام الأفراد لأنفسهم لأنهم لو كانوا مكان الفلسطينيين، سيقبلون أن يموتوا، تماماً كما كانت مقاومة النازيين في أوشفيتز. ويشدّد بالتالي على أنّ هؤلاء أفراد لا يمكن الوثوق بهم.
في معرض تفكيكه للعقيدة الصهيونية، يلجأ إلى علم النفس بطريقة ذكية وسلسة. يشرح أنّ الصهيونية قائمة على نموذج الخوف، مشيراً إلى أنّه يتفهم ذلك لأنّ جده نجا من المحرقة اليهودية ويفهم الصدمة المتوارثة، وكيف تنتقل عبر الأجيال وتسكن كيانهم. كما أنّه ردّد أن هتلر يسكن فيه، كما تسكن داخله المقاومة للنازية.
يعتبر أنّ في داخل كلّ منّا مشاعر نرفضها ونحاول قمعها والهروب منها ومحاربتها، من دون مواجهتها وإيجاد حلول لها. نحن في رأيه نضع جدراناً بينها وبيننا، رغم أنّها تسكننا. يصنف هذه المشاعر بأنّها الخوف والعار والغضب، معتبراً أنّ مدارس علم النفس الأميركية تعمل على عقلنة هذه المشاعر. وهنا، يبرز بالنسبة إليه التفوّق العرقي الأبيض، كمجموعة أفكار إيبستمولوجية وأنطولوجية، تحاول أن تقول لك إنّك وحش وعدائي لامتلاكك هذه المشاعر، فيما المعالج النفسي مخلّصك الوحيد. ولإسقاط هذه الفكرة على الواقع، يصبح هذا الوحش هو الفلسطيني داخل الكيان الإسرائيلي والسود في أميركا والنساء في الأنظمة الرأسمالية، وجميعهم يجب أن يسجنوا عوضاً عن الاعتراف بمسؤولية الأنظمة تجاه هذه الفئات المهمشة، في الوقت الذي تمعن فيه بشكلٍ ممنهج في حماية الوحش.
عندما كبر شلومو، رأى أنّ هذا الوحش يُترجم في فلسطين حيث بنى الكيان المنهار والمؤقت جدار فصل عنصرياً بين القدس ورام الله، قائلاً إنّه يجب أن نضع الوحش في الجانب الآخر لأنّ غضب هذا الوحش ومقاومته وحقّه موجودة فينا، ونحنا نخاف منه وعلينا أن نعطيه صفة «الآخر». وعوضاً عن التقرب منه وإظهاره، «نخاف منه فيما بات نموذج الخوف الذي خرجت منه الصهيونية بعد المحرقة، يعزز ضرورة إبعاد المخاطر إلى ما خلف الجدران، لأنّه إذا اقتربنا منه سيقتلنا، في وقت أنّ العكس هو الصحيح. عندما نقمع حزننا وعارنا وغضبنا، تتحوّل إلى ألم مستمرّ. لم يكسب نموذج الخوف يوماً، إذ إنّ البركان سينفجر والحب والضوء يقاومان، والجدران تنهار». وما حدث في تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي ليس إلّا ترجمةً لهذا الانفجار. فالمستعمر بنى الجدران لأن الوحش يكمن في المستعمر نفسه، بينما يعود المقموع دوماً أقوى ويجبر الجميع على التفكير مجدداً في إنسانيتهم.
لم يعد شلومو يؤيّد فكرة التظاهر لأنّ الحكومات لا تستجيب لمطالب المحتجين، ويدعو إلى حملات مباشرة واللجوء إلى الضغط عبر مجموعات لا عنفية لفرض وقف التسليح والإضراب العام مع المقاطعة العالمية. يرى أنّ الناس، كمجموعة متراصّة، يمتلكون القوة الكافية لفرض وقف لإطلاق النار والإبادة ورفع الحصار عن غزة وإنهاء نظام الفصل العنصري وفرض حق العودة لجميع الفلسطينيين.
في أحد أكثر مقاطع الفيديو انتشاراً له، يشرح شلومو سبب قتل الجيش للأطفال الفلسطينيين بشكلٍ ممنهج في غزة. فهذه ليست إستراتيجية غير مدروسة، إنّما متعمدة عبر الاستمرار في استهداف المستشفيات وإغلاق الحاضنات، كي يُقتل أكثر من 30 طفلاً دفعةً واحدة. تدرك إسرائيل أنّه في حال بقي هؤلاء الأطفال على قيد الحياة، سيكونون أكبر المناضلين من أجل الحرية في تاريخ العالم، وسيتمكن أحدهم من تحرير فلسطين بعدما شهد الإبادة الجماعية ووُلد حرفياً في عالم قتل ودمّر فيه كلّ ما حوله على يد كيان من يخضعون له.
تدرك إسرائيل أنّها تخلق جيلاً أكثر تشدّداً في غزة حالياً، سيفكّك الكيان الصهيوني بكل وسيلة ممكنة. بحسب شلومو، لن ينسى الأطفال في غزة ولن يغفروا أبداً ما فعله الاستيطان بعائلاتهم، وسيشكلون المقاومة الأكثر تشدّداً في التاريخ. وإسرائيل تعلم ذلك، وتعمل على قتلهم جميعاً، لأنّها تدرك عواقب قتل فلسطيني واحد. وبعد 15 عاماً من الآن، سيتذكرون كيف كبروا في معسكرات اعتقال، وكيف أُعدمت أجيال كاملة من عائلاتهم، وأنّهم الناجون الوحيدون الذين يمثلون نسبهم، وسينتقمون لدماء أجدادهم الشهداء. أطفال اليوم هم مقاومو الغد، وحتماً لن يدين شلومو ما سيفعله هؤلاء الأطفال بعد سنوات من الآن.