كانت 2023 سنة استثنائية للفن السابع. مع تراجع الظلّ الثقيل لوباء كوفيد 19، عادت السينما بتنوّعها اللامتناهي واكتظّت دور العرض من جديد. إذا نظرنا إلى الوراء، يمكن وصف 2023 بعام التقلبات السينمائية العنيفة، مع ضربتين كبيرتين تمثّلتا في إضراب نقابة كتّاب السيناريو ونقابة ممثلي الشاشة، ما أجبر الإنتاج السينمائي على التوقف لمدة. لذلك، كان عاماً مليئاً بالإضرابات والاضطرابات، والإصدارات المؤجلة، وأرقام شباك التذاكر التاريخية. والظاهرة الثانية تمثّلت في انتشار مصطلح «باربرهايمر» للدلالة على فيلمين صيفيّين عُرضا للمرة الأولى في اليوم نفسه وحطّما الأرقام القياسية في شباك التذاكر. كثيرون كانوا ينتظرون «باربي»، وهو فيلم عن الدمية الشهيرة، يمكن وصفه بإعلان تجاري طويل، وكذلك فيلم «أوبنهايمر»، ملحمة يوم القيامة النووي. وها هما يتوجهان إلى سباق الأوسكار (10 آذار/مارس المقبل)، وينضم إليهما فيلم آخر، هو «قتلة زهرة القمر» عن ماضي أميركا الاستعماري العنيف من توقيع مارتن سكورسيزي. ولا ننسى وافدة جديدة من كوريا الجنوبية هي سيلين سونغ، التي طبعت بموهبتها المشهد السينمائي 2023 بفيلمها «حيوات سابقة». كان هناك الكثير من أفلام السيرة الطموحة التي خالفت الصيغ المعتادة. أخرج ديفيد فينشر فيلماً تشويقياً محكماً بعنوان «القاتل»، وعادت صوفيا كوبولا بـ «بريسيلا» عن العلاقة التي جمعت ملك الروك الفيس بريسلي بزوجته بريسيلا، واجتمع سكورسيزي مجدداً بممثليه المفضلين روبرت دي نيرو وليوناردو دي كابريو لمدة ثلاث ساعات ونصف الساعة، وسافر ودي آلن إلى فرنسا في «ضربة حظ»، وعاد رومان بولانسكي في «القصر»، ولوك بوسون في «دوغمان». فيم فندرز سافر إلى اليابان لفيلمه «أيام مثالية»، ومن اليابان أيضاً قدّم ريوسوكي هاماغوتشي قصة مؤلمة في «لا يوجد شر». فيلم وثائقي حصد «دب» برلين الذهبي هو Sur l›Adamant للفرنسي نيكولا فيليبير الذي تناول موضوع سفينة تستضيف أشخاصاً يعانون اضطرابات نفسية في باريس، فيما نال يورغوس لانثيموس أسد «البندقية» بفيلمه «كائنات مسكينة» ومنح «كان» سعفته لفيلم نسوي هو «تشريح سقوط» لجوستين ترييه.عربياً كان عام 2023 موفقاً سينمائياً شهد ترميم «باب الشمس» للمصري يسري نصر الله وعرضه في مختلف المهرجانات العالمية والعربية، وسُجلّت مشاركات عربية في المهرجانات العالمية من بينها «إن شاء الله ولد» للأردني أمجد رشيد الذي فاجأ روّاد الكروازيت، وكذلك فعل السوداني محمد كردفاني في فيلمه «وداعاً جوليا» الذي يحصد اليوم الاهتمام العالمي ويُعرض في أكثر من بلد. ويخوض «بنات ألفة» لكوثر بن هنية و «كذب أبيض» لأسماء المدير، سباق الأوسكار 2024، وحصدت المخرجتان اللبنانيتان ميشيل ونويل كسرواني «الدب الذهبي» لأفضل فيلم قصير في «مهرجان برلين» عن فيلمهما «يرقة». شهدت الأشهر الـ12 الماضية إنجازات سينمائية، ومغامرات متدفقة، ودراما تاريخية لاذعة، وأفلام محاكم وهجاء، ورعباً مزّق الأعصاب، ودموعاً رافقتنا وتجمّعات بهيجة، بما يجعل اختيار أفضل الأفلام في 2023 مهمة صعبةً للغاية، فهناك ما لا يقل عن 30 فيلماً تستحقّ أن تكون على القائمة. مع ذلك ها نحن نخاطر ونختار ما نعتبره الأفضل من دون أي أفضليّة

«كائنات مسكينة» (Poor Things) يورغوس لانثيموس


«أشياء مسكينة» أو «كائنات مسكينة» مقتبس عن رواية بالاسم نفسه للروائي الإسكتلندي ألسدير غراي، صدرت في عام 1992. بالنسبة إلى المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس، فـ«الكائنات المسكينة» هي نحن البشر، خصوصاً الذكور الغارقين بشكل بائس في تقرير مصير بيلا باكستر (إيما سكون) بطلة فيلمه. في أطروحته الجديدة حتى الجنون، يجعل لانثيموس من تمكين المرأة عالمه، معيداً إحياء فرانكشتاين ليهديه للمرأة. لانثيموس لا يمزح ولا يهادن، يطلق النار علينا من دون إخفاء يده. جديده هو اعتداء أيديولوجي وعملي على النظام الأبوي، الذي سخر منه بلا رحمة. لا يضحي لانثيموس بشيء من أجل فنه، وفي عام 2023، قدم أحد أكثر أفلامه إقناعاً ووضوحاً. لا تزال المصفوفة اللانثيموسية موجودة، بين زوايا الكاميرا الواسعة والتشوهات الصورية والسخرية الحادة والذوق المروع، والحوارات غير المحتملة، لكن المليئة بالصدق. وفوق كل هذا، تعود الموسيقى في أفلامه وتُوظف كمحوّل للسرد وتطلب منّا إعادة النظر في ما نشاهده. «كائنات مسكينة»، أو نحن المساكين، عمل يجعل غرائزنا الحيوانية شيئاً رائعاً، يُعيد تثقيفنا، يعلّمنا معنى الحياة من خلال جسد امرأة بالغة في عقل طفلة تكتشف الحياة من دون حواجز. قدم لانثيموس حكاية قوطية دقيقة ومفصّلة بقدر ما هي مبهرة. أسطورة يجب أن تبقى لتتوارثها الأجيال.


«تشريح سقوط» (Anatomy of a Fall) جوستين ترييه


تدور دراما جوستين ترييه «تشريح سقوط» الحائز سعفة «كان» الذهبية، حول لغز مقتل صامويل (صامويل ثيس) المدرّس والكاتب الذي سقط من الطابق العلوي لمنزله المترامي الأطراف في جبال الألب الفرنسية. هل قُتل على يد زوجته ساندرا (ساندرا هولر) الكاتبة الأكثر نجاحاً منه أم أنه انتحر؟ ساندرا، هي المتّهمة، وتحاكم بسبب ذلك، والشاهد الأساسي هو طفلهما دانيال، الذي ينغمس في صراع حقيقي مع كشف وقائع تتعلق بأحلك جوانب حياة والديه. تعمل ترييه على شدّ توتر الفيلم، وتسيطر علينا في كل لحظة، مقدمةً دراما متوترة داخل المحكمة تتحول إلى ما يشبه فيلم بيرغمان «مشاهد من زواج» لكن من إخراج هيتشكوك! «تشريح سقوط» يحكي قصة النساء والرجال في عصرنا، عندما أدت ديناميكيات السلطة المتغيّرة إلى زيادة مساواة المرأة، ما جعل بعض الرجال يشعرون كأن هذا التأكيد على العدالة، كان بطريقة أو بأخرى اعتداء قاتلاً عليهم. فيلم ترييه دقيق للغاية، إذ إن الحوار والكاميرا يلعبان معنا في كل الأوقات، ويبقى الفيلم دوماً متقدّماً علينا بخطوة واحدة. ما هو حدّ الذنب؟ هل يجب أن نشعر بالذنب فقط لأن شريكنا يريد منّا ذلك؟ هل يمكن عكس الأدوار التقليدية في الزواج؟ أسئلة تبدو قديمة بالفعل، لكن ترييه تستخدمها كنقطة انطلاق. «تشريح سقوط» دراما في قاعة المحكمة متعددة الطبقات حول مدى استعداد مجتمع اليوم ليدير ظهره للنساء حالما تسنح له الفرصة.


«اغمض عينيك» (Close Your eyes) فيكتور إريثه


فيكتور إرثيه البالغ 82 عاماً، ذو فيلموغرافيا روائية صغيرة، تتمثّل في ثلاثة أفلام طويلة («روح خلية النحل»/ 1973 و«الجنوب»/ 1983 و«شمس شجرة السفرجل»/ 1992)، من بينها اثنان يصنّفان ضمن أفضل أفلام السينما الإسبانية. بعد 32 عاماً من الانكفاء، عاد المخرج الإسباني في عام 2023 بفيلم يحمل عنوان «اغمض عينيك»، يمكن أن يؤخذ على أنه وداع. تحفه إرثيه الجديدة كناية عن فيلم غير مكتمل صُوّر في أوائل التسعينيات، ثم يظهر ميغيل (مانولو سولو)، مخرج الفيلم غير المكتمل وهو يشرع في البحث عن ممثله الرئيسي الذي اختفى من دون أن يترك أثراً، وكان سبباً في توقف التصوير. كلا الفيلمين، غير المكتمل وذاك الذي نشاهده، يتحدث عن رجال يبحثون عن أحبائهم، على أمل أن يعيدوا لهم ماضيهم ويعطوا معنى لحاضرهم. «اغمض عينيك» غامض، استطرادي، طويل وفضفاض، ميلانكولي، سياسي، يمتلك ثراءً وإنسانية مميزين، وإرثيه لا يرحم ويطرح حقيقة غير مريحة: الأمر الأكثر مأساوية من فقدان ذاكرتنا هو معرفة أننا منسيون من قبل الآخرين. وعندما نُمحى من ذاكرتهم، نفقد قطعة من هويتنا. «اغمض عينيك» سينما راقية، وصية سينمائية، طريقة لتصفية حسابات إرثيه مع السينما، أو ربما تعليق ساخر على سبب غيابه. هو كل شيء عن التوازن بين الذاكرة والنسيان اللذين نتفاوض معهما عندما نصل إلى نهاية حياتنا. هو ترياق للنسيان وتأكيد للسينما باعتبارها فن البحث ومستودعاً للذاكرة.

«أوراق متساقطة» (Fallen Leaves) آكي كوريسماكي


تُفرد إنسانية آكي كوريسماكي أجنحتها فوق سماء فنلندا. تقدّم نظرة حزينة على «العصور الحديثة»، وتناشد كرامة الطبقة العاملة. يمزج فيلم «أوراق متساقطة» بين الرومانسية والولع بالسينما والإدمان على الكحول وبعض المامبو الإيطالي. في فيلمه الكوميدي الحزين واللذيذ والمغطّس بالفودكا، يتوسّع كوريسماكي، بطريقة غير رسمية، بثلاثيته الشهيرة (ثلاثية البروليتاريا التي تضم «ظلال في الجنة»، و«أريال»، و«فتاة مصنع الكبريت»). يقدّم لنا قصة حب مليئة بالخلافات والسكر والمصادفات والأخبار الإذاعية عن مجازر الروس في أوكرانيا والسندويشات المنتهية الصلاحية، وأرقام الهواتف المكتوبة على قطعة من الورق تطير بعيداً.
في «أوراق متساقطة»، ستتدخل المصادفة لإطالة أمد فراق العشاق. أنسا (ألما بويستي)، العاملة في السوبرماركت التي فُصلت بسبب أخذها منتجات منتهية الصلاحية، وهولابا (جوسي فاتانين) العامل العاطل من العمل بسبب إدمان الكحول، يلتقيان في ليلة كاريوكي، ثم يلتقيان مرة أخرى للذهاب إلى السينما. لكنّ الريح كانت ضدهما، فسلبت لقاءهما الموعود الجديد. يعود المخرج الفنلندي في فيلمه إلى خيال البروليتاريا المعتاد لينقله ويمزجه بالميلودراما الرومانسية. إنه تغيير كبير يدل على الأمل والحنان وفكرة الخيال أمام هيام الأبطال الذين يجرهم الحزن كما لو كانوا أوراقاً في الريح عنوان الفيلم. نظم وخطّط كوريسماكي فيلمه ببراعة، مع تنظيم مذهل للألوان، ونثر روح دعابته المحبوبة الفريدة والبسيطة على طول الشريط، وهو يلتقط الواقع من دون أطروحات أو تفسيرات. «أوراق متساقطة» هو أكثر ميلودراما كوميدية رومانسية غرابةً وجمالاً أنتجتها السينما الحديثة.


«يرقة» ميشيل ونويل كسرواني


كُتب «يرقة» بذكاء وأُنجر ببراعة. فيلم لا يشبه كثيراً أفلامنا اللبنانية، يقوم على تقاطعات التاريخ والحاضر والسياسة والاستعمار والصداقة واستغلال المرأة. صور، مشاهد، اقتباسات، مشاهد من أرشيف، موسيقى، صورة ومشهد من دون صوت، وقصة روائية خيالية تمسك كل شيء، وفوق كل هذا صوت سارة (نويل كسرواني) وأسمى (مسا زاهر) يعلو على كثير مما سبق. كل ما يمكن تخيله موجود في الفيلم بفوضوية خلاقة، بفن لا يمكن تفكيكه عن أي شيء. الفيلم القصير للشقيقتين ميشيل ونويل كسرواني (30 دقيقة ــــ دب برلين الذهبي)، يربط تاريخ مدينة ليون الفرنسية ببلاد الشام عامة، وجبل لبنان خصوصاً في صناعة الحرير. لجأ تجار الحرير الفرنسيون إلى الاستثمار في بلاد الشام لصناعة الحرير بعد مرض أصاب زراعتهم، وبدؤوا في تغيير الزراعات وإنشاء مصانع حرير تعرّضت فيها النساء للاستغلال. أخرجت الشقيقتان الفيلم استناداً إلى بحثين هما «حب الحرير» لفواز طرابلسي (نُشر في عدد أيار/مايو 1996 من ملحق «أوريان اكسبرس»، ثم طوّره الكاتب في كتابه «حرير وحديد.. من جبل لبنان إلى قناة السويس») والثاني «بيت لآلهة البيت: الجندر والطبقة والحرير في القرن الـ19 في جبل لبنان» لأكرم فؤاد خاطر (جامعة كامبريدج ــــ 2009). يستعرض مقال طرابلسي العلاقة بين نساء جبل لبنان ومصانع الحرير الغربية في القرن التاسع عشر. وفي أحد مقاطع المقال، يقول طرابلسي إنه في حوالى عام 462، قال أمير ياباني: «بين أثداء النساء تكمن الحرارة المثالية للشرانق حتى تفقس». ومن هذه الجملة انطلقت الشقيقتان بفيلمهما الذي يتناول تأثير الأحداث التاريخية على تشكيل حياة المرء بشكل عام والمرأة بشكل خاص في العالم اليوم. خرجتا بقصة عصرية تدور حول تيمات الهجرة، وظروف العمل، وكيفية تشكّل فرديتنا عبر السفر وظروف العمل. يسافر الفيلم بين الماضي والحاضر، بين استغلال النساء في مزارع دودة القز في جبل لبنان، وبين حياة سارة اللبنانية وأسمى السورية النادلتين في أحد مقاهي ليون الفرنسية. وعلى الإثر ومن دون سابق إنذار، تبدأ الأفكار بالتدفق. لغة سينمائية حرّة لمخرجتين قادرتين على تقديم فسيفساء حية، تحيي القرون الماضية وتضعها في حوار مع القرن الحالي. «يرقة» حنون يربت على أكتاف نسائه، وهو تأنيب ثقافي واجتماعي وسياسي واقتصادي. فيلم دقيق وبارع عن الذاكرة، وعن عبور الذكريات ومحاولة تهدئة الألم الناتج من الغياب. المقارنة بين نساء المصانع وشخصيتي الفيلم ليست مجرد مقارنة بلاغية تنير شيئاً ما، بل صورة نقدية للمجتمع. وبين كل هذا، نصغي ونراقب ونتلقّف كل ما تقوله ميشيل ونويل، اللتان حملتانا بأسلوبهما الاستطلاعي إلى عالمهما بطريقة مفعمة بالطاقة والحنية.

«الوحش» (La Bête) برتران بونيلو


في فيلم برتران بونيلّو، تتكشف السينما أمام أعيننا كالسحر، كجلسة تنويم مغناطيسي، كحكاية خيالية رائعة. «الوحش» المستوحى بشكل فضفاض من رواية هنري جيمس القصيرة «الوحش في الغابة»، يحكي قصة بين الواقع المرير وحيوات غابريال (ليا سيدو) المصمّمة على محو كل آثار العاطفة من داخلها ومن حمضها النووي. هذه العملية الدقيقة ستجعلها على اتصال بحياتها الماضية في أعوام 1910، و2024، و2044 وبحبّ متكرر هو لويس (جورج مكاي) الذي يظهر في حياتها كهدية حيناً، وكعقاب أحياناً. يحول المخرج الفرنسي نسيج الفيلم إلى كابوس، بانياً قصة على شكل متاهة تتسم بالوسواس والهذيان بقدر ما هي جذابة. ترتبط القطع الناقصة في الفيلم بشكل غامض وشاعري في سلسلة متتالية من مشاهد وتواريخ مختلقة. لا نعرف في بعض الأحيان ما إذا كانت هذه المشاهد عبارة عن ذكريات الماضي أو تخيّلات المستقبل أو واقع الحاضر. سيولّد«الوحش» الحب والكراهية، سيبهر المشاهدين ويثير غضبهم على حد سواء. وبالتأكيد انهمرت عشرات النصوص التحليلية التي حاولت تحليل الفيلم في ضوء راهن العالم. لا يُتوقع أقلّ من ذلك من فيلم يعتمد على تاريخ السينما الفرنسية من جان رينوار وليوس كاراكس إلى أوليفييه اساياس، ومن غودار في «ألفافيل» إلى آلان رينيه في «موريال» أو «العام الماضي في مارينباد» وما إلى ذلك. شريط مختلط لا نهائي ينتهي بإلقاء نظرة نقدية على الصورة الرقمية الفارغة التي تولّد نفسها، وفي نهاية قد تكون أغرب تتر نهاية فيلم في تاريخ السينما. عالم «الوحش» عالم غامض، وحكاية رومانسية معاصرة وغريبة، إذ يمكن القول إنّها تعبير عن بونيلّو نفسه.