يعتبر بعضهم المصارعة المحترفة رياضةً جذابة ومعقّدة، وبالنسبة إلى الآخرين هي مجرد عرض ترفيهي سخيف. لكنّ هناك شيئاً واحداً مؤكد: تنتج هذه «الصناعة» الكثير من النجوم الذين تبيعهم إلى الجماهير بهدف الترفيه. بعض هذه الشخصيات أصبحت مشهورة خارج الحلبة، ووصلت إلى النجومية السينمائية مثل دواين جونسون، وديف بوتيستا، وهالك هوغن، وجون سينا وروندا روسي. بعضها الآخر تحوّل إلى أساطير بسبب تفوّقه في الحلبة وأيضاً قصة حياته الشخصية التي لا تُصدق. من هذه «الأساطير» رجال عائلة فون إريك، الذين دمّرتهم المصارعة بشكل غير مباشر.في عالم ما زال يحتفي بطقوس الرجولة والذكورة، يحكي «المخلب الحديدي» (The Iron Claw) عن الصداقة والأخوة والحب والخسارة والحزن والألم. الشريط الذي طرح أخيراً في الصالات اللبنانية، يتعمّق في مأساة أميركية، هي القصة الحقيقية و«لعنة» عائلة فون إريك الشهيرة. في خلفية عالم المصارعة، يتحدث المخرج شون دوركين عن مخاطر الطموح والهوس والسعي لتحقيق الهدف بغض النظر عن العواقب. يفعل بذلك عبر تقويض قواعد الدراما السينمائية الرياضية الكلاسيكية، فالأمر هنا لا يتعلق بالانتصار على كل الصعاب، بل بكيفية صراع أولاد مع طموحات والدهم وسلسلة ضربات القدر الرهيبة والمدمّرة والمتتالية.
«منذ أن كنت طفلاً، كان الناس يقولون إنّ لعنةً حلّت بعائلتي. والدتنا حاولت أن تحمينا بالله، وحاول والدنا أن يحمينا بالمصارعة، وقال إنّنا لو كنّا الأشد والأقوى، فلن يستطيع أحد أن يؤذينا. لقد صدّقته. لقد فعلنا جميعاً ذلك» يقول كيفن فون إريك (زاك إيفرون)، ليمضي الفيلم في نقل الحياة اليومية لهذه العائلة. يرسم دوركين صورةً حزينة لعائلة مفكّكة، ضربها القدر في أضعف الأماكن. في تكساس الأميركية في الثمانينيات، اكتسبت المصارعة المحترفة في منزل عائلة فون إيريك، أبعاداً دينية تقريباً، بحيث ينتهي الأمر بالجميع إلى أن يكونوا عبيداً لأسلوب حياة يعتمد على التدريب والانضباط وتحقيق الإنجازات الرياضية. مع عدم تمكّن الأب فريتز فون إريك (هولت مكلاني) من الفوز بحزام بطولة العالم في المصارعة، زرع هذا الحلم في أبنائه. كيفن ثاني أكبر الأخوة هو الأقرب إلى اللقب. ديفيد فون أريك (هاريس ديكنسون) يخطو أيضاً أولى خطواته في الحلبة، قد لا يتمتع بعضلات كيفن، لكنه يتمتع بالكاريزما وصفات الاستعراض المهمة في هذه الرياضة. ينضم كيري فون إريك (جيريمي ألين وايت) إلى أشقائه في الحلبة، عندما يتحطّم حلمه بالمشاركة في الألعاب الأولمبية بسبب حظر الرئيس الأميركي جيمي كارتر مشاركة الرياضيين الأميركيين في الألعاب الصيفية في موسكو، احتجاجاً على الحرب السوفياتية على أفغانستان. الابن الأصغر مايك فون إريك (ستانلي سيمونز)، يفضل العزف في المرآب على رفع الاثقال والمصارعة، لكنّ الأب الصارم وزوجته المتدينة دوريس (مورا تيرني) التي تحضر أطناناً من الطعام كل يوم، يعتقدان أن الأمر سيختفي قريباً، وأنه سيتبع أشقاءه. مع صعود كيفن الناري، يلتقي بحب حياته بام (ليلي جيمس)، ويفصح عن اللعنة التي يقال إنها تحلّ على حامل اسم فون إريك، التي بدأت مع الموت المأساوي للابن الأكبر جاك جونيور وهو في السادسة من العمر.
مجتمع تسيطر عليه البشرة البيضاء والهروب من الفقر و«الوايت تراش» والتعصب والتدين


على من ستحلّ اللعنة؟ وكيف ستحدث؟ يتبع «المخلب الحديدي» هذه الدراما الحقيقة، ويتعمّق دوركين في رسم الشخصيات. هو مهتم دوماً بالعلاقات الإنسانية والأسر المفكّكة، والأهداف العالية والآمال الهشة والأحلام المحطمة، وجديدة هذه الرغبة القاتلة في إرضاء والديك، والأخوة الذين يضحّون بفرديتهم من أجل تحقيق آمال والدهم. يتعامل الفيلم مع المأساة بمرونة، والنتيجة فيلم يبدو خفيفاً ومرناً في أحلك مناطقه، ومشؤوماً في الحياة اليومية الأكثر تفاهة، وأكثر صدقاً في المشاهد التي يُسمح فيها للأخوة بأن يكونوا مجرد إخوة، حيث يأكلون معاً، ويعملون معاً، ويقودون السيارة، أو ببساطة يستريحون وهم يطفون على سطح الماء.
عرف دوركين كيف ينقل القصة الحقيقية إلى الشاشة الكبيرة. يمسك مخرج «مارثا مارسي ماي مارلين» (2011) و«ذا ناست» (2020)، القصة من مختلف الاتجاهات بسبب كثرة الشخصيات والقصص (حقيقة أنّ الفيلم أسقط قصة الابن كريس، أحد الأخوة الستة بسبب ضيق الوقت أمر مرير ولكن مفهوم). بالطبع، هناك العديد من مشاهد المصارعة، إذ لا يُستهزء بهذه الرياضة، بل تُقدّر سلسلة حركاتها المعقدة. يطور الفيلم فكرة الدور الكبير الذي لعبه الأب في تشكيل هؤلاء الأطفال، ونحن ندرك تدريجاً الطبيعة غير الصحية والظالمة لهذا التأثير الذي يؤلّه النجاح. أسلوب يزرع الجثث طوال الوقت حرفياً. الخسائر المتتالية للأخوة والعائلة، تؤدي تدريجاً إلى تآكل زخم الفيلم، ما يؤدي إلى العديد من المقاطع الخاملة وتسطيح الحبكة في لحظات معينة. هكذا، مع مرور الوقت، تصبح الصراعات التي تنشأ من تفاعلات الشخصيات أكثر اصطناعاً، وبالتالي يتجه الفيلم نحو العاطفة. ينقذ المخرج فيلمه عبر اللحظات الصغيرة، وخصوصاً تلك التي لا نشعر بها، مع الشخصيات الحاضرة الغائبة، مثل الأم التي لا تلمس أطفالها ولا تأخذهم بين ذراعيها أبداً، ما يجعل اللحظة المذكورة والعاطفة المتولدة منها عندما تفعلها بام مع كيفن أو مع أولادها، أقوى بكثير. مع ذلك، يصبح الفيلم في مرات كثيرة تفسيرياً، لا يترك دوركين مجالاً للشك في أن المصائب والحوادث الكثيرة في سلاسة المصارعين هذه، ليست بسبب اسم ملعون، بل لأنّ الآباء هم المسؤولون.
أول ما نلاحظه في الفيلم هو تسريحات الشعر، ثم الرجال الذين يبدون وكأنهم سينفجرون بسبب كتل العضلات المدبوغة بالزيت، وكرات اللحم التي تصطدم ببعضها في الحلبة، إضافة إلى الأب وخزانته المليئة بالأسلحة والتماثيل والفم المليء بالمثابرة وشعارات الفوز. نحن في جنوب وسط الولايات المتحدة، حيث البشرة البيضاء هي المهيمنة، والهروب من الفقر و«الوايت تراش» هو المسيطر، والتعصب والتحفظ والتدين الأبيض في الثمانينيات هو الغالب. يجد المخرج ومصوّره ماتياس إيرديلي صوراً رائعة لا تستسلم لإغراء تحويل ما نشاهده إلى مشهد رخيص، يل تستحضر صور إيرديلي حقبة الثمانينيات بحنين راقٍ. اللقطات المأخوذة بزاوية رؤية واسعة، تترك مساحة للمناظر الطبيعية والأزياء المفعمة بالحيوية، في الوقت نفسه، فإنّ نظام اللون المستخدم ليس متفاخراً إلى حد الابتعاد عن العالم الحقيقي، لكنه لا يزال منمّقاً بما يكفي لإحياء الصور النموذجية لتلك الحقبة. يعتمد الفيلم على الأداء الجيد لطاقمه الرئيسي، وخصوصاً زاك أفرون الذي اختفت رقبته بين كتلة العضلات الذي بناها من أجل دور المصارع الأسطوري كيفن فون إريك. إن جبال العضلات تلك، والأداء الممتاز، والحنك الكبير (بسبب حادثة تعرّض لها قبل التصوير) لا تعكس العمل الشاق الذي يقوم به زاك، لكن أيضاً رغبته في كسر الصورة النمطية للمراهق الوسيم، الذي تلاحقه منذ سلسلة أفلام «هاي سكول ميوزيكال».
ينجح «المخلب الحديدي» في تجاهل أهمية المواقف الدرامية، التي عادة ما تُقدَّم على أنها الذروة. الحوادث والمآسي والاضطرابات، غالباً ما تحدث هنا بطريقة مفاجئة. لا يُعلن عن المآسي مقدماً، لذلك نحن نواجهها، مثلما يواجه آل فون أريك أنفسهم. وهذا يجعل الأحداث أقرب إلى الرعب، قفزات درامية مخيفة كامنة في السرد، حقيقة مؤلمة تنفجر أمام أعيننا من دون ملاحظتها، تعمل بشكل ممتاز، وخصوصاً للذين لا يعرفون القصة الحقيقية للعائلة. «المخلب الحديدي» بعد كل شيء هو عملياً قصة «بقاء» كيفن، وانتصاره على «اللعنة» وحماية نفسه إلى اليوم.

The Iron Claw في الصالات