كأنّ المخرج الإسباني خوان أنطونيو بايونا يريد أن يكون الراوي الحصري لأسوأ كوابيسنا: في «الميتَم» (2007)، أسكن الأشباح منزلاً، وفي «المستحيل» (2012)، دمّر التسونامي حياة ماريا وعائلتها الذين قرروا قضاء عيد الميلاد في تايلاند. وبعد «دعوات الوحش» (2016)، والديناصورات في «عالم جوراسيك: المملكة الزائلة» (2018)، يعود بكابوس جديد، ولكنه حقيقي هذه المرة. في «مجتمع الثلج» (يمثّل إسبانيا في جائزة الأوسكار ــ القائمة القصيرة) يستعيد بايونا الروح القديمة والنبيلة لكلاسيكيات أفلام الكوارث، ليروي لنا حادثة تحطّم طائرة سلاح الجو الأوروغوياني، الرحلة 571، والأحداث المعروفة باسم «مأساة جبال الأنديز» أو «معجزة جبال الأنديز» التي وقعت عام 1972. كما نعلم، تحطّمت الطائرة التي كانت تنقل فريقاً من لاعبي الرغبي من مدينة مونتيفيديو في الأورغواي إلى سانتياغو في تشيلي، وسط جبال الأنديز في المحافظة الأرجنتينية مندوسا. ومن بين الركاب الأربعين وطاقم الطائرة الخمسة، توفي 29 شخصاً، وأُنقذ 16 راكباً بعد 72 يوماً، بعدما قرر اثنان من الناجين شقّ الجبال والمشي لمدة عشرة أيام لطلب النجدة.
مشهد من فيلم «مجتمع الثّلج»

كما هي الحال مع عدد من الأحداث الأخرى في التاريخ، أثارت هذه الكارثة والمعجزة اهتمام كثيرين. ولهذا أُنتجت ثلاثة أفلام روائية وعدد من الوثائقيات وعدد كبير من الكتب، بعضها وقَّعه الناجون. وفي كل مرة تظهر نسخة سينمائية جديدة من القصة، ننغمس في التساؤلات والتفاصيل: كيف ستُعرض هذه الكارثة الجوية؟ كيف سيؤدي الممثلون الذين يلعبون الأدوار الأكثر شهرةً، خصوصاً الذين يلعبون دور ناندو بارادو وروبرتو كانيسا وطبعاً الراوي نوما توركاتي؟ كيف ستُعالج قضية أكل لحوم البشر؟ بينما نحن ننتظر كل مرحلة من مراحل الرحلة (التحطم، عمليات البحث وتوقفها، الانهيار الجليدي، الدفن تحت الثلج، العثور على ذيل الطائرة، الرحلة المثيرة لبارادو وكانيسا، والإنقاذ)، نعاني عاطفياً من الموت والجوع والبرد، ونتعجب من المقاومة والتضامن والبطولة، ونشعر بالرعب من لامبالاة الطبيعة المعادية.
يركز «مجتمع الثلج»، المقتبس من كتاب بالعنوان نفسه للكاتب بابلو فيرسي (منتج الفيلم أيضاً) على بناء قصة مبنية على الأخوّة والروح التضامنية، وإظهار أنّ القوة موجودة في المجموعة. لذلك يترك بايونا الحياة الفردية لكلّ شخصية، ليركّز على المجموعة كوحدة واحدة، عبر اللعب وتمرير الكرة، وغرفة الملابس التي لا تحتوي حماماتها على ستائر تفصل بينها، أو الصور الجماعية، أو الاحضان وتدليك القدمين بعد الحادثة لتدفئة بعضهم عندما تكون درجة الحرارة دون الصفر في الليل. هم لم يصبحوا فريقاً بعد الحادثة، بل كانوا كذلك دائماً. هذه هي الطريقة التي يواجهون بها الشدائد والانقسام الرئيسي الذي ستثيره الصحافة والمجتمع عن وجوب أو عدم وجوب أكل الجثث المجمّدة من أجل البقاء على قيد الحياة. في هذه المعركة تلعب المشاعر والقيم والسلوكات والألم والذنب والندم والجرأة والمغفرة والشجاعة والاستسلام دوراً في الصورة البشرية التي يستخدمها بايونا عن روح الجماعة كمثال متفوّق، والوصول بها إلى أسمى التضحيات عندما يقول المحتضر قبل أن يموت: «أنا أسمح لكم بأن تستخدموا جسدي كطعام».
يتجلّى الفيلم في التسلسل الصادم والمفصّل لحادثة السقوط، في مشهد نابض بالحياة إلى درجة أنّ الكاميرا تنجح في تجسيده بكلّ فظاعته. يتألق أيضاً بفضل طاقم الممثلين الآتين من الأوروغواي والأرجنتين الذين يبرز بينهم أنزو فوغرينسيتش في دور الراوي نوما توكاتي، وأغوستين بارديلا في دور ناندو بارادو، وماتياس ريكالت في دور روبرتو كانيسا. لعلّ «مجتمع الثلج» هو أجمل أفلام خوان أنطونيو بايونا، لأن البحث عن العاطفة لا ينحصر في اللحظات الميلودرامية، بل يصل إلى بُعد روحي، مركّزاً على المجموعة ككيان عضوي، يشكّل الأحياء والأموات على حد سواء، كتلة ذات وجوه متعددة تمثل البشرية جمعاء.
اختار بايونا إعطاء فيلمه مقدمةً أطول ونهاية أكثر اكتمالاً. يتسم الشريط بحالة من التشويق والعاطفة وعدم اليقين، فيما ينقل لنا العملية البطيئة لمرور الوقت، والأحداث المختلفة مثل الليالي المجمدة، والدفن تحت الثلج، والأيام العشرة التي مشى فيها الاثنان من الناجين إلخ... للقيام بذلك، يضع التقلبات المأساوية التي عاشها الركّاب ضمن ترتيب زمني صارم، ويعيد خلق الأوقات الميتة الطويلة والضربات المفاجئة. كل شيء سيء في الفيلم يأتي فجأة، لأن الطبيعة لا تحابي الجريئين، ولا المشاهد يرغب في الحصول على مدة راحة. يفضل «مجتمع الثلج» اللجوء إلى التجربة المباشرة والقسوة السردية للتاريخ. أسلوب عرّضه لبعض المطبات الهوائية التي كان ممكناً تفاديها، فجزء كبير من الفيلم يتكون من لقطات قريبة جداً من وجوه الممثلين، التُقطت بزاوية واسعة تشوّههم إلى حد ما، وعادةً ما تكون حوافها مموّهة. هذه الصور المرئية تؤدي إلى بعض الالتباسات المكانية والسردية، التي تزيد من عدم وضوحها، مشكّلةً تقطيعاً غير ماهر. الفيلم مليء بالخطابات، بعضها جيد مثل خطبة أرتورو حول العقيدة الدينية، ولكنها تضيع بين غالبية الحوارات السيئة إلى حد ما. تُضاف إلى ذلك، عاطفة متناثرة لا داعي لها تذكرنا ببعض السينما الآسيوية: عندما يموت شخص ما، نعود فوراً إلى الوراء، لاسترجاع حياته عندما كان على قيد الحياة في الماضي القريب.
الأفلام غير الوثائقية التي أُنتجت عن هذا الموضوع هي «ناجون» (1976) للمكسيكي رينيه كاردونا و«على قيد الحياة» (1993) للأميركي فرانك مارشال. الفيلم المكسيكي منخفض الميزانية، وثقيل نوعاً ما لأنه اقترب كثيراً من المأساة وترك تأثيراً كبيراً، ليس في المكسيك فقط، بل إنّ نسخته المدبلجة إلى الإنكليزية أيضاً حققت نجاحاً في الولايات المتحدة وبلدان أخرى. نسخة فرانك مارشال من بطولة إيثان هوك وجوش هاملتون ووجوش لوكاس، بينما جون مالكوفيتش هو الراوي، كان لها تأثير جيد، ولكنها واجهت بعض الانتقادات بعدم المصداقية، لأن الفيلم ينطق بالإنكليزية، إلى جانب إضافة شخصيات من أجل زيادة حدة الدراما. بالعودة إلى «مجتمع الثلج»، يستخدم بايونا النصوص المزعومة التي كتبها ناندو بارادو، الذي مات بعد إصابته بالغرغرينا في ساقه، للحديث عن أهمية التضامن الإنساني في الظروف القصوى، فكل لحظة من الفيلم بمنزلة جهد خارق للنجاة من الموت، فهم لا يقاتلون من أجل وجودهم فقط، بل من أجل وجود أقرانهم أيضاً.
يقترح رؤية علمانية لحقيقة أكل الجسد، فيظهر لنا معاناة الشباب الذين قاوموا الجوع بالبحث عن البروتين في جثث الموتى

لكن رغم كاثوليكية الشباب التي كانت واضحة في الفيلم، إلا أنّ بايونا تجنّب الغوص سواء أفي فكرة الأمل في الخلاص أم قضية تناول اللحم البشري، كما أنه لم يتحدث عن صمت الله أمام جبال الأنديز. بدلاً من ذلك، ركّز على التضامن الإنساني على عكس فيلم مارشال الذي يغمز من قناة الفكرة المسيحية والإيمان كمحرّك للخلاص، وقوة للبقاء. وضمن رمزية الدين، تحدث مارشال أيضاً عن الإيمان المسيحي بشراكة الجسد: إن فكرة أكل جسد الميت من قبل من هم على قيد الحياة، يرجِّع صدى اللاهوت المسيحي حول سرّ «القربان المقدّس» باعتباره العمل الأسمى لشراكة الجسد. في المقابل، يقترح بايونا رؤية علمانية لحقيقة أكل الجسد، فيظهر لنا معاناة الشباب الذين قاوموا البرد بالملابس، والجوع بالبحث عن البروتين في جثث الموتى. لذلك، يتبع فيلم بايونا القواعد التي تسمح للمُشاهد بالمعاناة، وهو أكثر وضوحاً وصراحة في ما يتعلق بمسألة أكل اللحم البشري. رغم أنّه معروف أنّ جميع الركاب تقريباً على متن الطائرة كانوا مسيحيين ولديهم مشكلات أخلاقية خطيرة في اتخاذ هذه الخطوة من أجل البقاء على قيد الحياة، إلا أنّ الفيلم لا يظهر ذلك بوضوح، فالأهمّ هو البقاء على قيد الحياة. انشغالات بايونا والفيلم واضحة وبعيدة عن الفكرة المسيحية وأكثر مباشرة وصراحة وهي: هل أكل الجثة فعل قانوني؟ يتجلّى ذلك عندما علم الناجون بأنه سوف يتم انقاذهم. هنا، وجب عليهم أن يقرروا ماذا يفعلون بالبقايا البشرية الموجودة. بجوار الطائرة، توجد كومة من الهياكل العظمية، وبقايا بشرية متحلّلة، يركلها شخص ما عندما يسمع الأخبار السارّة أخيراً. بعد هذا المشهد، لا نستطيع أن نتخيّل طريقة أفضل للتعامل بكرامة وصراحة مع الموضوع الأكثر حساسية على الإطلاق: ماذا نفعل عندما لا يكون هناك مورد آخر للبقاء سوى أن نتغذّى على جثث أولئك الذين ماتوا؟

* Society of the Snow على نتفليكس