دمشق | ذوت ليل أوّل من أمس الثلاثاء الممثلة السورية المخضرمة ثناء دبسي (1941 ــ 2024)، قلعة الدراما السورية و«أمّها الحنون». لقب نالته الراحلة لكثرة ما جسّدت ببراعة دور الأمّ في دراما بلادها. خلال السنوات الأخيرة، لم يكن لها نصيب وافر من الأدوار إلا في ما قلّ، أحدها مثلاً في «ترجمان الأشواق» (كتابة بشار عباس، وإخراج محمد عبد العزيز). في إحدى إطلالاتها الإعلامية النادرة في السنوات الأخيرة، شرحت دبسي سبب اعتذاراتها المتكررة عن معظم ما يصلها من أعمال، عازية الأمر إما إلى رداءة النصوص أو إلى عدم المهنية في التعامل. انكفأت ثناء مع زوجها الممثل المخضرم سليم صبري منتظرةً مصيرها في بلاد قرّرت ألا تغادرها مهما تهاوت وترنّحت، لأنّها كانت تعتبر أنّ السفر هو السبب الرئيسي في انهيار سعادة أي عائلة. تكرّست هذه الفكرة في ذهنها منذ صباها وسفر أخويها إلى أوروبا، ثم عادت لتتعمّق أكثر مع اندلاع الحرائق السورية واتخاذ ابنتها النجمة يارا صبري موقفاً مناهضاً للسلطة وقرارها الابتعاد النهائي عن البلاد. الرحلة بالنسبة إلى دبسي بدأت من مدينة حلب. في عاصمة الشمال السوري، وُلدت في كنف عائلة تذوّقت الطرب الشرقي، وجعلته جزءاً من تفاصيل حياتها اليومية. والدها كان يعزف على العود، وخالها يغني في سهرات عائلية حميمة. لحظات تعدّ من أكثر ما علق في ذهنها من أيام الطفولة، إضافة إلى اللحظات الأولى لدخولها مدرسة الراهبات. هناك، تعرّفت إلى لذة ذلك الشعور الغامض بالذعر والقلق عند الصعود إلى المسرح ومواجهة الجمهور. كانت المدرسة تحرص دائماً على إقامة حفلات يصدح فيها صوت ثناء التي تعلّمت الغناء وأحبته قبل التمثيل. بعد سنوات، انتقلت الطفلة الموهوبة إلى مدرسة خاصة، كانت مديرتها تهتم كثيراً بالفن. هكذا، أتيح لها أن تمارس هوايتها المفضلة عبر حفلات ومسرحيات جسّدت فيها أدواراً عدّة. بعد عملها في المسرح المدرسي، انتسبت مع أختها الممثلة ثراء دبسي إلى فرقة «المسرح الشعبي» التي قدّمت عروضاً جماهيرية جالت مدناً عربية، مثل القاهرة وغزة. ثم كانت المفاجأة الكبيرة بالنسبة إلى العائلة المحافظة، عندما أخبرت ثناء والدها أنها تريد الذهاب مع أختها إلى دمشق لاحتراف الفن. بكثير من الشغف، كانت الممثلة الراحلة تتذكر علاقتها بحلب وقلعتها التي تمكث في ذاكرتها وتحتل هامشاً واسعاً من علاقتها بمدينة احتضنت سنوات طفولتها ومراهقتها. تتذكّر خطواتها الأولى صوب احتراف الفن بعدما تركت الثانوية، وسافرت إلى دمشق حيث أسهمت مع مجموعة من زملائها في تأسيس «المسرح القومي». تدرّبت حينها على يد المخرج الفلسطيني هاني صنوبر، إذ كانت وزارة الثقافة آنذاك تعنى بالفرقة الناشئة وتهتم بتأسيس حركة مسرحيّة حقيقيّة. وقوفها الاحترافي الأوّل على المسرح كان في عرض افتتاحي لـ «المسرح القومي» عام 1960، حمل اسم «أطفال بلدنا» حيث أدّت شخصية أم ثمانينية. كي تتمكّن من التخلّص من الرهبة التي تملّكتها، ركزت على شخص من الجمهور وتناست أنها أمام هذا الحشد الذي راح يداوم على عروض «المسرح القومي» لشهور متواصلة. العروض الجماهيرية في «القومي»، جعلتها ممثلة متمكنة، ثم عملت مع المخرج سليم قطايا العائد من ألمانيا، في مجموعة سهرات تلفزيونية صنعت منها نجمة جماهيرية على التلفزيون السوري، إلى أن قدمت أوّل مسلسل طويل هو «حارة القصر» (1970)، من تأليف عادل أبو شنب وإخراج علاء الدين كوكش. بتقنيات بسيطة لكاميرا ثابتة وثقيلة تصوّر على نحو متواصل مشاهد من دون مونتاج، خرج العمل مذهلاً قياساً بالإمكانات المتواضعة المتاحة، ما دفع خبراء فرنسيين زاروا سوريا في ذلك الوقت إلى الإشادة بـ «أهمية ما ينجزه هؤلاء الممثلون الشباب» الذين سرعان ما تحوّلوا إلى أيقونات الدراما السورية، من بينهم الراحلون يوسف حنا، ورفيق سبيعي، وعبد الرحمن آل رشي. وقد أسهم قطايا في تقديمهم إلى الجمهور قبل أن يغادر هذه الدنيا باكراً من دون أن توثَّق تجربته أو يؤرشَف تاريخه المهم.في زحمة العمل، التقت بالمخرج والممثل سليم صبري وظلّت بقربه حتى آخر يوم في عمرها. استمرّت رحلتها معه حوالى 60 عاماً، أسّسا خلالها مشواراً مهنياً غنياً، وحياة شخصية أثمرت عائلة متماسكة. لاحقاً، ستهجر ثناء دبسي الخشبة بعدما تألّقت في عشرات الأعمال، من بينها «الأشجار تموت واقفة»، و«الملك لير» لعلي عقلة عرسان، وعدد من التجارب المهمّة قبل أن تمضي بعيداً عن «المسرح القومي» بسبب خلاف حاد مع مديره الفنان أسعد فضة. هكذا، انقطعت عن العمل في سوريا لسنوات، قبل أن تعود في مسرحية «تخاريف» ثم أطلّت في مسلسل «الذئاب» (1989) لعلاء الدين كوكش. لكنّ التلفزيون حصرها في دور الأم المعطاءة الذي أدّته بأشكال مختلفة، من «غزلان في غابة الذئاب» إلى «زمن العار» لرشا شربتجي، ثم «وراء الشمس» لسمير حسين، حتى أصبحت تُعَد إحدى أمهات الدراما السورية.

* يصلّى على جثمان ثناء دبسي اليوم الخميس في «مسجد لالا» في شارع بغداد في دمشق، قبل أن يوارى الثرى في «مقبرة الحرش الكبير» في حيّ المهاجرين. تُقبل التعازي للرجال والنساء غداً الجمعة (من الساعة الخامسة بعد الظهر حتى الثامنة والنصف مساءً بتوقيت دمشق) في صالة «نقابة الفنانين» في المزرعة (جانب «نادي بردى»).