«يناضل» الكاتب والباحث اللبناني بدر الحاج على جبهات عدّة، مدفوعاً بهمّ واحد: القبض على الذاكرة وتوثيقها وتأريخها في بلد مصاب بفقدان الذاكرة لا يمتلك أي رؤية تجاه أهمية التوثيق بالنسبة إلى ترسيخ الهوية الوطنية والثقافية وحفظها للأجيال المستقبلية. اشتغل على ذاكرة بيروت (كتابا «بيروت ضوء على ورق 1850ــ 1915»/ «دار كتب للنشر» ــــ كتاب Beirut 1840-1918/ A Visual and Descriptive Portrait/ «دار كتب» ومتحف «نابو»)، بعدما راكم في مجموعته الخاصة صوراً غير معروفة التُقطت للعاصمة منذ مطلع خمسينيات القرن التاسع عشر حتى العقد الأوّل من القرن العشرين، ورصد تاريخ التصوير الفوتوغرافي في بيروت مع أوائل المصوّرين الذين زاروها.
سعادة في ضهور الشوير صيف 1947 (أرشيف بدر الحاج)

كما اشتغل على ذاكرة الشوير، بلدة زعيم «الحزب السوري القومي الاجتماعي» أنطون سعادة (1904 ــــ 1949)، في كتاب («الشوير وتلالها ــ سجل مصوّر»/ دار كتب ــ 2013) وثّق حياتها وعمرانها ومظاهرها الاجتماعية والفردية في مدة زمنية تمتد من العقد الأخير للقرن التاسع عشر إلى مطلع الستينيات من القرن الماضي. الهمّ والالتزام السياسي بمعناه العميق والشامل، يقفان وراء اشتغالات هذا الباحث المهموم بتوثيق ذاكرتنا الوطنية والاجتماعية والثقافية. ها هو يصدر أخيراً مشروعاً طموحاً وضخماً كناية عن سبعة مجلدات تضمّ رسائل لأنطون سعادة تمتدّ من عام 1926 حتى 1949.
قبل الحاج، جرت محاولات عدة لجمع هذا التراث وحفظه، إلا أنّ «المجموعة الحالية تضمّ كل الإصدارات السابقة، العامة والاختصاصية، وتقدّم 691 رسالة منسّقة حسب تواريخها ومضبوطة على أصولها متى كان ذلك متاحاً» وفقاً لمقدّمة المشروع التي كتبها أحمد أصفهاني وبدر الحاج وسليم مجاعص (راجع مقدّمة المجلّدات في مكان آخر من الصفحة). عن الجهد والوقت اللذين استغرقهما جمع هذه الرسائل وكيفية الوصول إليها، يقول بدر الحاج لـ «الأخبار»: «بدأ جمع جزء من هذه الرسائل منذ مطلع السبعينيات من المهجر البرازيلي والأرجنتيني وهو رسائل بعثها سعادة إلى قوميين في أميركا اللاتينية. وهناك قسم آخر مُرسل قبل الحرب العالمية الثانية إلى المسؤولين الحزبيين، حين كان سعادة مسافراً من أوروبا إلى البرازيل. وهناك رسائل لزوجته، من بينها الأخيرة قبل أسبوع من اغتياله». ويضيف: «في معظم الرسائل، يناقش الوضع السياسي أيام الحرب العالمية الثانية، ومواضيع تنظيمية.

انقر على الصورة لتكبيرها

وفي رسائل موجّهة إلى غسّان تويني، يتطرق إلى الموضوع الديني والفلسفي والمسيحية. هناك مجموعة مهمّة جداً مكوّنة من مئات الرسائل، التي تضيء على مرحلة مغيّبة من حياته. استغرق العمل على الرسائل نحو سنة ونصف السنة، بالاشتراك مع أحمد أصفهاني الذي قام بالجزء الأكبر من العمل (مراقبة النصوص ومطابقتها بالأصل إذا وُجد)، ومع سليم مجاعص الموجود في شيكاغو وفي رصيده كتاب عن سيرة أنطوان سعادة. بعض النصوص نُشر في كتب وجرائد حزبية. يمكن القول إنّها المحاولة الأولى لجمع ما توافر من رسائل، علماً أنّ جزءاً كبيراً مفقود بسبب انقضاء حوالى 70 سنة. تحوي الرسائل تفاصيل دقيقة عن المشكلات التي واجهها سعادة، سواءً سياسية أو تنظيمية، ورأيه بالحرب العالمية الثانية، وموقفه المناهض للحركة الفاشية والنازية، وموقفه من أوروبا، ومصير سوريا بعد الحرب العالمية الثانية... هناك حالة من الدراما تسود مناخ الرسائل: مأساة على الصعيد التنظيمي (قلة الموارد المالية مثلاً)، مع إطلالة على حياته الخاصة. يمكن اعتبار هذه الرسائل تكملة لمؤلّفاته، وهي في معظمها مجهولة بالنسبة إلى كثيرين، بمن فيهم قوميّون. بما أنّي كنت مسؤولاً ثقافياً في مطلع السبعينيات في «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، راسلت الرفاق في أميركا الجنوبية، وبدأنا جمع الرسائل التي استحصلنا عليها».
موقفه راديكالي من قضية فلسطين وخسر حياته بسببه على عكس ما يحاولون تصويره (بدر الحاج)

حين نسأله عن مدى راهنية «الزعيم» وفكره ورؤيته في ظلّ الوضع الذي تشهده منطقتنا، خصوصاً مع تغوّل المشروع الصهيوني، يعلّق: «موقف أنطون سعادة راديكالي من قضية فلسطين وخسر حياته بسببه على عكس ما يحاولون تصويره. كانت هناك عملياً وحدات حزبية سرية تقاتل في حيفا ويافا والقدس وطبريا. وكان هناك مكتب أمن تابع لسعادة، يمدّه بتقارير عن الوضع الفلسطيني قبل الـ 48. تنقل هذه الرسائل صوتاً نهضوياً لم يكتفِ بالكتابة والتنظير، بل مارس الفعل الشعبي المسلّح على أرض الواقع بمفرده». ويختم: «الجو العام في لبنان اليوم تجاه فلسطين، لا يختلف عمّا كان عليه أيام سعادة أو في أي وقت آخر».

* يقام احتفال توقيع مجموعة رسائل أنطوان سعادة (سبعة مجلدات من 1926 ـــ 1949) غداً الجمعة ما بين الخامسة والنصف عصراً والسابعة والنصف مساءً في «فندق سيرينادا» (الغولدن توليب سابقاً ـــ شارع عمر عبد عبد العزيز ـ الحمرا)