تونس | في مساحة إعلاميّة ضيقة، وحيّز محدود للحرية تحكمه الرقابة على وسائل الإعلام المحلي، غالباً ما كانت القنوات التي تبثّ من الخارج، المصدر الوحيد الموثوق للخبر. هكذا، تابع المواطن التونسي القنوات العربية بشغف، وخصوصاً بعد انطلاق الاحتجاجات الشعبيّة في 17 كانون الأوّل (ديسمبر) 2010. توجّه اهتمامه نحو «الجزيرة» التي غطّت الأحداث على الأرض، رغم التضييق المفروض عليها.
لكنّ العلاقة الوثيقة بين المشاهد التونسي والفضائية القطريّة تغيّر نسبياً، بعد صعود أصوات تتهم «الجزيرة» بالانحياز إلى التيار الإسلامي. وفي مثال قريب على ذلك، نتذكر تغطية القناة لمسيرة الحريات في شارع الحبيب بورقيبة في يوم عيد الاستقلال في 20 آذار (مارس) الحالي. ضمّت المسيرة آلاف المتظاهرين المطالبين بدولة مدنيّة، رافضين اتخاذ الشريعة مرجعاً أساسياً في الدستور. كانت التغطية الإعلامية للتظاهرة واسعة، وكانت «الجزيرة» من بين القنوات الحاضرة. غير أنّ ردّ فعل المتظاهرين لم يكن ودوداً تجاه القناة، بل رفعوا شعارات «الجزيرة Dégage»، و«شعب تونس شعب حرّ/ لا أميركا لا قطر». وتجمهر بعض المتظاهرين حول مراسل المحطة لطفي حاجّي، معبّرين عن استيائهم من خطّ القناة الذي عدّوه «مفتقداً للحياد ومحرضاً على الفتنة».
لم تكن هذه المواقف لتظهر قبل «14 يناير». في ذلك الحين، ساد الشارع التونسي شبه إجماع على اعتبار «الجزيرة» المنبر الإعلامي الأجدر بالمتابعة. في زمن حكم بن علي، طرقت القناة أبواب المواضيع المحظورة، وفتحت هواءها أمام المعارضة التونسيّة الممنوعة في زمن كمّ الأفواه. في ذلك الوقت، نجحت حرفيّة المحطة في نقل الصوت، فاستقطبت المجتمع التونسي بمختلف شرائحه الاجتماعية. لكنّ انحيازها الواضح إلى التيار الإسلامي بدأ يغيّر المزاج الشعبي تجاهها. «الحملة التبشيريّة» التي قامت بها «الجزيرة» برزت بصفة جليّة قبل انتخابات 23 ت 1(أكتوبر) من خلال منحها مساحات كبيرة لإنجازات «حزب النهضة» وللجمعيّات الإسلاميّة الحديثة النشوء. هذا من دون أن ننسى تغطيتها للهجمات التي تعرّضت لها قناة «نسمة» بعد عرض فيلم «بيرسيبوليس»، وسينما «أفريكا آرت» بعد عرض فيلم «لا ربّي لا سيدي» لنادية الفاني. رددت القناة عبارات مثل «قلّة علمانيّة»، و«نموذج فرنسي»، و«اعتداء على الذات الإلهيّة» و«جماعات إسلاميّة متشدّدة»، و«سلفيّون». كأنّ «الجزيرة» مصرّة على تقسيم التونسيين إلى علماني ضدّ سلفي، يتوسّطهما الإسلام المعتدل ممثَّلاً بحزب «النهضة».
برز في عمل القناة نسق متصاعد بدأ في دعم الحملة الانتخابيّة لحركة «النهضة» قبل 23 تشرين الأول (أكتوبر)، تلاه التعتيم على الاحتجاجات، ما ولّد لها أعداء في المجتمع التونسي ممّن لا يتردّدون في إطلاق تعليقات ساخرة من نوع «70000 مشارك في مسيرة الاستقلال و«الجزيرة» ستقول لكم كانوا ثلاثمائة والبقيّة من المارّة». في المقابل، لا تتردّد المحطة في تضخيم صورة التظاهرات ذات التوجّه الإسلامي مثل تسليط الضوء على مسيرة لمجموعة صغيرة من السلفيين أمام «المسرح البلدي». وقامت هنا بتركيز الكاميرا من الخلف، بطريقةيظهر فيها كلّ من دفعه فضوله لأن يقف ويتفرّج، كأنّه يشارك في التظاهرة!
تزامن هذا النفور من «الجزيرة» مع ما شهده المجتمع التونسي من تجاذبات حول علاقة الحكومة التونسية بقطر، وتنظيم مؤتمر أصدقاء سوريا في تونس بإشراف قطري. كلّ هذه المعطيات أزّمت الموقف من القناة الشهيرة، يضاف إليها موقف الشارع التونسيّ ممّا يحدث في سوريا، وترجيح جزء مهمّ منه إلى تبنّي نظريّة المؤامرة واتّهام «الجزيرة» بالعمالة والمساهمة في «تخريب استقرار سوريا وأمنها». وما زاد الطين بلّة انتشار صور على الفايسبوك تفصّل عمليّات التركيب والفوتوشوب التي قامت بها «الجزيرة» لاحتجاجات سوريا وليبيا.
1 تعليق
التعليقات
-
نفور من "الجزيرة"شكرا للكاتبة! فعلا، تغيرت العلاقة بين قناة الجزيرة والعديد من المشاهدين التونسيين، وربما العرب، منذ ثورة الياسمين. فمع الإقرار بأن مستوى الحرفية في قناة الجزيرة عموما هو من أحسن ما حققته الصحافة المرئية في العالم العربي إلى حد الآن، إلاّ أن انحيازها، الواضح أحيانا كثيرة، إلى طرف دون آخر ينسينا تلك الحرفية ويجعلنا نفضل مصادر إعلامية نراها أكثر حيادية. وقد اتضحت قلة الحياد في تغطية التجاذب بين العلمانيين والإسلاميين في تونس وفي تغليب صوت الإسلاميين ووجهة نظرهم على حساب وجهة النظر الأخرى. ومن الحالات التي ساءني فيها موقف القناة، تغطيتها المبتورة لقضية بث شريط برسيبوليس على قناة "نسمة"، وتغطيتها المنحازة لأحداث كلية الآداب في منوبة. ولعل الانحياز إلى وجهة النظر الإسلاموية ليس مدعاة للاستغراب بالنظر إلى ما تقوم به هذه القناة "القرضاوية" من دعاية لوجهات النظر المحافظة. ولكن يبدوا أننا تفطنا أكثر إلى عدم حرفية ذلك الموقف عندما أثّر على دقة تغطية الأحداث في بلدنا. لا ننسى أيضا أن مستوى النشرات الإخبارية في القنوات التونسية تحسّن كثيرا بتحسّن نطاق الحريات الإعلامية في تونس بعد الثورة، فقلّ الاقتصار على القنوات الخارجية وأصبح من الممكن المقارنة بين محتوى تلك القنوات وما تبثه القنوات التونسية. وهذه مناسبة لإسداء الشكر للإعلاميين (والإعلاميات) التونسيين الذين جعلونا نقبل من جديد على التغطية الإعلامية المحلية.