انتهى أمس يوم حالات الطويل بتحوّل الشهود الثلاثة في مسألة المقبرة الجماعيّة المحتملة (ميلاد ر.، جاكلين غ.، وجوزف أ.) إلى مشتبه فيهم بالإدلاء باتّهامات كاذبة، وبحفرة قال بعض الذين تابعوا أعمال الحفر منذ بدايتها إنها هدفت إلى تضليل الرأي العام، وخصوصاً الباحثين عن جثث مفقوديهم. إذ سارع المشرفون على «الورشة» إلى طمس حفرة تحت الطريق بدا أنها عميقة ومثيرة للشك، ظهرت قرابة الساعة التاسعة و45 دقيقة.ثم استمرّ الحفر على امتداد سبعين متراً بعرض قرابة مترين، فيما كان المطلوب ـــــ بحسب متابعي الملف ـــــ ألّا يقلّ عرض الحفرة عن ستّة أمتار. ولم يتعدَّ عمق الحفرة متراً ونصف المتر، الأمر الذي وصفه بعض أهالي حالات الذين تجمهروا حول الحفرة بـ«الهزليّ» لأنّ معظم الحفر طاول الردم، من دون أن يغوص في العمق.
ورغم اعتراضات بعض الأهالي وجمعية «سوليد»، عمدت جرافات بلدية حالات، التي وضعت بتصرف النيابة العامة الاستئنافيّة في قضاء جبيل، إلى ردم الخندق الذي شقّته بعدما تأكد المسؤولون، وجميعهم غادروا قبل انتهاء عمليات الحفر بثلاث ساعات، من أنّه «لا وجود لأيّة مقبرة جماعيّة».
وكانت القصّة قد بدأت مع تحقيق للزميلة منال شعيا نُشر يوم الخميس الماضي في 10/4/2008 في «نهار الشباب»، تحت عنوان المقابر الجماعيّة: «في حالات واحدة جديدة... ولغز عنجر مستمر». ونقل التحقيق عن أهالي حالات قولهم إن ثمة مقبرة في بلدتهم تعود الى ما بعد معركة القليعات بين الجيش والقوات في 30/3/1990. وقد اكتشفها عام 2002 موظّف تابع لشركة صيانة كانت تعيد تأهيل أوتوستراد حالات. ونقلت شعيا عن أحد الشهود قوله إن الحفرة «تقع تحت عمود الكهرباء المواجه مباشرة لغاليري «أنفراروج» (Infra rouge) بين خطي الأوتوستراد»، علماً بأن الاوتوستراد كان بين عامي 1983 و1990، قبل سيطرة القوات عليه، مطاراً عسكرياً تابعاً للجيش، وكانت فيه حفرة مفتوحة يستخدمها الجيش كخزانات للطيران ومستوعبات وقود. لكن، بعد انتهاء معركة القليعات ومغادرة الجيش المطار، طُمِرت الحفرة، وبدأ الاهالي يهمسون في الخفاء بأنها قد تحوي جثثاً.
تحرّكت النيابة العامة بعد نشر تحقيق شعيا وسألتها عن مصادرها، قبل أن تحقّق مع اثنين من الشهود الذين ذكرتهم، من دون سؤال جمعية «سوليد» التي نسبت شعيا إليها امتلاك ملف عن المقبرة.
وبسرعة موازية لبدء إثارة هذا الملف سياسياً، طلبت النيابة العامة من بلدية حالات توفير الآليات لحفر الأوتوستراد، وذلك من دون أخذ إفادات أكبر عدد ممكن من الشهود أو التدقيق بالإفادات المعطاة، ومن دون عقد أي اجتماع تحضيري أو دراسة المعطيات جيداً. ولم تُجمع أو تُدرس خرائط المنطقة، علماً بأن المكان المشار إليه كان أشبه بثكنة عسكريّة، ويفترض أن يكون لدى قيادة الجيش خرائط تفصيليّة عنه. كما لم تُدرس نوعية التربة، وهو اختبار سهل يمكن من خلاله معرفة طبقات التربة وتقلّباتها، وبالتالي العمق والمكان الذي يفترض أن تركّز عليه الحفّارة. كذلك لم تطلب القوى الأمنية العاملة في المكان مؤازرة الجيش، بخلاف ما كان يحصل سابقاً. ولم تُستشَر وحدات القوات الدوليّة الموجودة في لبنان، رغم الخبرة الكبيرة لبعض وحداتها في هذه الأمور.
ومع تأخُّر قرابة ساعة، وفي غياب تام للأجهزة الجنائيّة العلمية المختصّة، وللكلاب البوليسيّة، وللمتخصصين، سواء في الصليب الأحمر المحلي أو الدولي، ودون ضرب أيّ طوق أمني حول المكان الذي يشتبه أن يكون مسرح جريمة، أشار النقيب في قوى الأمن الداخلي أديب الحاوي إلى عناصره لقطع الطريق جزئيّاً، وطلب من الموظف التابع لبلديّة حالات مباشرة العمل في ظل تجمهُر عدد كبير من الأهالي على طرفي الطريق. ولم تواكَب هذه العمليّة بحضور فانات المباحث العلميّة في الشرطة القضائية، المتخصصة بمواكبة حالات كهذه. وغابت فرق التصوير المتخصص وخبراء في الجيولوجيا والطوبوغرافيا.
وقد أدّى القطع الجزئيّ للطريق إلى اصطدام سيارة «بيك آب» بالحاجز الوسطي للأوتوستراد، ما أدى الى إصابة كل من: الشحات عبد الرحمن متولي (مصري)، مصطفى عبدالله قبش (سوري)، وعادل خالد الحاج محمد (سوري)، برضوض وجروح مختلفة.
وعند الساعة التاسعة و45 دقيقة، ومع ظهور حفرة غريبة قيل إنها عبّارة مياه، عمّت البلبلة وطلب أحد عناصر الاستقصاء الذي كان يشرف على المكان أن ينزل أحد عناصر القوى الأمنية إلى الحفرة. وبعدما فشل في إيجاد مصباح كهربائي يضيء به الحفرة، عمد إلى «دفش» بضعة حجارة كبيرة إلى الحفرة لسماع صداها. وسرعان ما طلب أحد الأمنيين من سائق الجرافة متابعة عمله، وعملياً ردم الحفرة العميقة التي ظهرت. والجدير ذكره أن العناصر الأمنيين كانوا إما من طوارئ السير أو من مخافر المنطقة، فيما لم يرتدِ المحقّقون الجنائيون، إن وجدوا، ما يدل على هويتهم. وأثار الغياب الكامل للجيش شكوك عدد من الأهالي الذين قالوا، منذ ساعات النبش الأولى، إنّهم غير مطمئنّين لنتيجتها بسبب إمساك قوى الأمن وحدها بما يشتبه في أنه مسرح لجريمة. وكان الشاهدان الأساسيّان، وهما رجل وزوجته يملكان معرضاً متواضعاً للسيارات قبالة مسرح المقبرة المفترض، قد أعربا عن قلقهما نتيجة عدم الحفر في المكان الذي أشارا إليه في إفادتهما. وقد شوهد شاب، أفاد الأهالي أنه أحد عناصر القوات اللبنانيّة البارزين في المنطقة، يتهامس أكثر من مرّة مع الأمنيين، ويتحرّك وسطهم، خلف الشريط الأصفر، كواحد منهم، وسط تأكيد من بعض أهالي المفقودين الذين حضروا أنّ المشهد بالشكل يؤسّس لمقبرة نفسيّة. وقد بدا ذلك واضحاً في ملامح غازي عاد، رئيس جمعية «سوليد»، وهو يتصدّى للجرافات وهي تعيد ردم الحفرة. كان عاد، فوق كرسيّه المتحرّك، يتوعّد الجرافّة بيدٍ، ويسأل صارخاً عن التقنيّات، وعن المتخصّصين بالـDNA، وعن الجيش اللبناني، وعن الأهالي الذين يريدون معرفة مصير أبنائهم.

ردود الفعل
ولم يتأخّر رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع في التعليق على الموضوع، قائلاً إنه «على يقين بأن المقابر الجماعية في حالات هي ادعاءات كاذبة وخاطئة ولا تمت الى الواقع بصلة»، آسفاً «للمستوى الذي وصل إليه الجنرال ميشال عون في العمل السياسي من خلال إثارته لمسألة المقابر الجماعية في حالات، الأمر الذي دفع بالنيابة العامة الى مباشرة الحفريات». ورأى أن «العمل السياسي لا يقتصر على إشاعة الاخبار الكاذبة ضد الآخرين كما أن المنافسة السياسية ليست بتشويه صورتهم ولا بالمقابر».
وقد ردّت لجنة الإعلام في «التيار الوطني الحر» على جعجع معتبرة أن ما فاته هو «أن أعمال الحفر الجارية تتمّ بأمر من النيابة العامة، وبناءً على معلومات صحافية، ولا دخل للعماد عون بكلا الأمرين». بدوره، أعرب عضو تكتل التغيير والإصلاح النائب عباس هاشم عن عدم رضاه عن أعمال الحفر «التي لم تصل الى العمق اللازم». كما وصف النائب شامل موزايا أعمال الحفر بـ«التمثيليّة»، داعياً إلى «توسيع الحفر ثلاثة أمتار شرقاً وغرباً عن وسط الأوتوستراد.
وقد صدر مساء أمس عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي ــ شعبة العلاقات العامة البلاغ التالي: «الساعة 9:00 من تاريخ اليوم (أمس) 15 الجاري، وتحت إشراف قوة من سرية درك جونية، بوشرت عملية حفر المكان في وسط أوتوستراد حالات مقابل كاليري «الإنفرا روج» والذي أثيرت من حوله شكوك وتساؤلات عن إمكان وجود مقبرة جماعية فيه تعود إلى سنوات الحرب الأهلية وفق ما نشرته إحدى الصحف المحلية.
الساعة 15:40 من تاريخه، وبعد الانتهاء من عملية الحفر، لم يتم العثور على أية مقبرة في المكان. من خلال التحقيقات الأولية التي أجرتها فصيلة درك جبيل مع عدد من الأشخاص الذين أعطوا معلومات حول وجود مقبرة جماعية في حالات، لم تُثبت أعمال الحفر صحة المعلومات التي أعطيت بهذا الشأن.
وبناءً لإشارة النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي غسان عويدات، تم توقيف ثلاثة أشخاص لمدة أربع ساعات (من الساعة 15:00 لغاية الساعة 19:00) ثم تركهم لقاء سندات إقامة لإدلاءهم بمعلومات غير مطابقة للواقع، وهم كل من: جاكلين غ. (مواليد عام 1958)، ميلاد ر. (مواليد عام 1959)، جوزف أ. (مواليد عام 1968)، لبنانيّو الجنسيّة.
التحقيق جارٍ بإشراف القضاء المختص».