نحت الأزمة السودانية، في شهرها الثاني، مع تقزّم مُدد الهدن المقترَحة إلى 24 ساعة فقط (انتهت أحدثها صباح الـ 11 من الجاري)، نحو سيناريوات بالغة القتامة، عبّرت بالفعل عن حجم التدخّل الدولي والإقليمي في الأزمة، والعمل على تغذيتها وإدامتها، حتى من جانب راعيتَي «الوساطة» في ما بين طرفَيها: السعودية والولايات المتحدة. ويتردَّد وسط دوائر سودانية في الخارج الحديث عن «قناعة» لدى الإدارة الأميركية - بالتماهي مع الإمارات والسعودية - بتلك الطريقة في التعامل، بما يفضي إلى نقْل «الحالة السورية» إلى السودان وتفكيكه إلى مناطق نفوذ (لتقسيم الموارد ظاهريّاً وفق مصالح القوى الإقليمية، وتعزيز الاستراتيجية الأميركية في مواجهة المنافسين في أفريقيا، ولا سيما موسكو وبكين) على نحو يَخدم في النهاية تحقُّق حالة فوضى شاملة في هذا البلد، وتغيير صورته الحالية كدولة «إلى الأبد».
البرهان و«حميدتي»: جهود التوازن الصعب
يبذل رئيس «مجلس السيادة»، عبد الفتاح البرهان، جهوداً واضحة لتحقيق اختراقات على الأرض، عبر تكثيف هجمات الجيش السوداني داخل أحياء العاصمة، ورفْع القدرة التفاوضية لقواته بما يمكّنها من فرض شروط على قوات «الدعم السريع». وتجلّت هذه المساعي، في جانبها السياسي، في تعليق البرهان مشاركته في «محادثات جدة»، ومن ثمّ إعلانه المبعوث الأممي، فولكر بيرتيس، «شخصاً غير مرغوب في وجوده في السودان» (9 حزيران) على خلفية اتّهامه إيّاه بالانحياز إلى قائد «الدعم» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الأمر الذي آتى أكله بتكليف نائبة بيرتس، الكاميرونية كلمنتين نكويتا سلامي، بمهامّه (10 حزيران).
في المقابل، وفي حديث إلى «news 24» (8 حزيران)، حاول «حميدتي» الترويج لنفسه بوصفه «الطرف الصالح»، مؤكداً عدم إقدام قواته على خرق أيّ اتّفاق لوقف إطلاق النار، وأن تحرّكاتها أتت استجابةً لانتهاكات الجيش لهذه الاتفاقات، متّهماً الأخير بأنه «لا يسعى إلى نهاية لهذا الصراع، بل إلى مواصلة الحرب». كما تحدّث عن «وجود مراكز صنع قرار متعدّدة داخل وحول قيادة» الجيش، عازياً إلى ذلك فشل «مفاوضاتنا السابقة». وعلى رغم كونه هو وقواته صنيعة نظام عمر البشير، لفت إلى أن كثيرين من نظام «الديكتاتور السابق» «يؤثّرون على جهاز صنْع القرار في القوات المسلّحة السودانية الآن»، وهو ما ردّ عليه نائب قائد الجيش، شمس الدين كباشي، بشكل غير مباشر، بمقطع مصوّر (9 حزيران)، أكد فيه أن القوات المسلّحة متماسكة، وأن البرهان يقود المعركة على الأرض.
وفي تجسيد للاستقطاب المتزايد، على رغم الهدنة، تصاعدت بعد انتهاء هذه الأخيرة مباشرة صباح 11 حزيران (كانت قد تضمّنت آلية جديدة تنصّ على قيام مسيّرات سعودية بمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار)، حدّة الاشتباكات في الخرطوم (بداية من شمال أمّ درمان)، وبعض المناطق المتفرّقة (ولا سيما في غرب السودان) بشكل غير مسبوق منذ مطلع العام الجاري، فيما لاحظ مراقبون سودانيون بدء استخدام «الدعم السريع» مسيّرات متقدّمة (يبدو أنها بيلاروسية الصنع، وتمّ إدخالها إلى السودان من طريق بعض دول الجوار، وبتمويل خليجي كما كان متوقّعاً في مراحل سابقة) في مواجهة الضربات الثقيلة التي وجّهها الجيش إلى معاقل تلك القوات، والتي عُدَّت الأعنف منذ أسابيع، ولا سيما في ضاحية حاج يوسف في بحري. كما استمرّت أعمال العنف في مدينة الجنينة في دارفور منذ أيام، على خلفية ما يقال إنه تكثيف «جماعات عربية تشادية على صلة بالدعم السريع» هجماتها في المدينة الحدودية مع تشاد.
يبدو السودان متّجهاً نحو سيناريو قاتم لا تمانع تحقّقه الولايات المتحدة ودائرة عملها اللصيقة في الإقليم


واشنطن وآفاق الاستثمار في الأزمة
لجأت الولايات المتحدة، في تعاطيها مع أزمة السودان، إلى مقاربتها الأثيرة للأزمات الدولية، وقوامها الانتظار الطويل واختبار مدى قدرة الأطراف المتصارعة على فرض واقع على الأرض، بغضّ النظر عن تكلفة ذلك الإنسانية. وبدلاً من تمتين جهود الوساطات الإقليمية التي انطلقت منذ ساعات الأزمة الأولى، مالت واشنطن إلى التعاون حصراً مع الرياض، وتمرير الجهود كافة عبر هذه الصيغة، وتهميش بقية الأطراف، حتى الدولية منها. وعلى سبيل المثال، لم يُتَح للصين - حتى الآن - انخراط أكبر، على رغم رغبتها في العمل مع «المجتمع الدولي» في قضايا حفظ السلام والوساطة في الصراعات، والشراكة التجارية المهمّة بينها وبين السودان (وصل حجمها إلى 1 مليار دولار في عام 2021)، ومساعدات بكين التنموية للخرطوم (بما فيها إعفاءات الديون بشكل ثنائي، على رغم ما يثار حول ديبلوماسية فخّ الديون الصينية)، وما يرتبط بذلك بالضرورة من حرص الصين على تمكين اقتصاد السودان من خدمة ديونه، إضافة إلى وجود نحو 800 صيني من أفراد «قوات حفظ السلام» في دارفور، التي تشهد جانباً من أحداث الصراع الراهن. وإذ يفسَّر تهميش الحضور الصيني، ربّما، بحرص واشنطن على الاستثمار في الأزمة، وصولاً إلى مزيد من عدم الاستقرار الأشمل في الإقليم المضطرب في الأساس، فالأكيد أن الولايات المتحدة تسعى إلى مجابهة الحضور الروسي المتزايد في وسط أفريقيا، والمتمثّل في مجموعة «فاغنر» خصوصاً، على رغم النشاط الديبلوماسي الروسي الهادف إلى تعميق العلاقات مع الدول الأفريقية، والذي يحظى بقبول شعبي وحكومي لافت في الفترة الأخيرة، وتحديداً قبل أسابيع من انعقاد القمّة الروسية - الأفريقية (تموز المقبل). أمّا الاتحاد الأوروبي وبريطانيا فيغيبان منذ أسابيع عن أيّ مقاربة منفردة للأزمة في السودان، مكتفيَين بدور الوساطة الأميركية - السعودية.

قمّة «إيغاد» الطارئة والمخرج الأفريقي للأزمة
بدأت، في 12 الجاري، القمّة الطارئة الـ 14 لـ«الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا»، «إيغاد»، برئاسة جيبوتي (بعد آخر قمّة طارئة للمجموعة في تشرين الثاني 2019) بغرض مناقشة العديد من التطوّرات الإقليمية، ومن أبرزها الأزمة في السودان، إضافة إلى وضع «استراتيجيات جديدة لتحقيق التنمية المستدامة (في الإقليم)». وجاءت هذه القمّة بعد شهرين من اندلاع الصراع، وإطلاق الهيئة وساطتها الخاصّة بها عبر «ترويكا» تضمّ رؤساء كينيا وجيبوتي وجنوب السودان (16 نيسان، فيما سبقها اجتماع مهمّ (9 حزيران) بين نائب رئيس «مجلس السيادة» السوداني مالك عقار، ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الذي لبلاده اليد الطولى في إدارة «إيغاد»، جدّد فيه الأول ثقة بلاده التامّة بـ«الترويكا». وتلا ذلك الاجتماع توجّهُ عقار إلى جيبوتي لحضور القمّة نائباً عن البرهان، ومحمّلاً برسالة منه مضمونها أنه مع «أيّ حلّ ينهي الحرب مع الدعم السريع».
وتعوّل القيادة السودانية بقوّة، في المرحلة المقبلة، على الدور الأفريقي، على رغم قرار تجميد عضوية السودان في «الاتحاد الأفريقي»، وهو ملفّ ستناقشه «إيغاد» في قمّتها الحالية. وتؤكد ذلك مخرجات اجتماع عقار وأحمد، وترحيب الثاني بأيّ دعوة توجَّه إليه لزيارة الخرطوم، ليكون، إذا ما تمّت هذه الزيارة، أرفع مسؤول خارجي يزور البلاد في غضون الشهرين الماضيَين. ويُتوقّع في حال تبنّي «إيغاد» خطّة عمل واقعية، أن تكون جهود رئيس الوزراء الإثيوبي في قلْبها، سواء بشكل مباشر عبر ترتيب زيارة له للخرطوم أو غير مباشر من طريق لقاءات في العاصمة أديس أبابا مع ممثّلين من جانَبي الصراع، وخصوصاً في ظلّ رغبة آبي أحمد في إعادة دور بلاده في السودان إلى زخمه السابق قبل الانقلاب على رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك.
واتّساقاً مع الزخم الأفريقي، الذي لم تتّضح بعد جدّيته أو قدرته على صياغة تسوية مقبولة، تزامَن مع إعلان البرهان رفضه مقترحاً أفريقياً بترتيب لقاء يجمعه إلى «حميدتي»، إعلانُ الرئيس الكيني، وليام روتو (12 الجاري)، قبول بلاده قيادة عملية الوساطة «الأفريقية» لإنهاء العنف في السودان، وعزمه تكثيف جهود نيروبي خلال «الأيام العشرة المقبلة» لعقد لقاءات مباشرة (وعلى نحو منفصل) مع البرهان و«حميدتي» باسم «إيغاد». كما تقرَّر، بحسب بيان للرئاسة الكينية، عقد محادثات في نيروبي تضمّ جيبوتي وإثيوبيا وجنوب السودان إلى جانب كينيا، في مؤشر دالّ على اضطلاع إثيوبيا بالدور الأكبر في هذه العملية، كما كان متوقّعاً. وعلى أيّ حال، يُعزّز هذا المسار الذي يمتلك أدوات تنفيذية ناجعة، العديد من الاعتبارات الخارجية، مِن مِثل فتور التنسيق المصري - السعودي في الملفّ السوداني، وخشية المراقبين من انتقال حتمي للأزمة إلى العديد من الدول خارج السودان، وتحديداً تشاد وربّما جنوب السودان، بحسب المؤشرات الحالية، وهما من أبرز حلفاء القاهرة إقليميّاً.

خلاصة
يبدو السودان متّجهاً نحو سيناريو قاتم لا تمانع تحقّقه الولايات المتحدة ودائرة عملها اللصيقة في الإقليم (إسرائيل والإمارات والسعودية)، قوامه تكريس الأزمة الراهنة ودفْعها نحو استقطابات أكثر حدّة وربّما تفكيك السودان نفسه بحالته الراهنة، من أجل الحفاظ على مصالح واشنطن وحلفائها على نحو مستدام. وبحسب مراقبين مطّلعين، فإنّ الأيام القليلة المقبلة ستشهد إمّا صدّ هذا السيناريو عبر تبنّي مقاربة أفريقية للحلّ، أو إتاحة الفرصة كاملة أمام إطلاقه، أو بالأحرى استمراره.