طهران | انتعشت، خلال الأيام والأسابيع الأخيرة، سوق التكهّنات والأخبار والشائعات حول «المحادثات» و«الاتفاق» بين إيران والولايات المتحدة. وفي هذا الإطار، يَنشر العديد من وسائل الإعلام، سواء الإيرانية أو الأميركية أو حتى الإسرائيلية، يوميّاً، تقارير جديدة عن «الاتفاق الوشيك» بين الجانبَين، علماً أن هذه الأنباء تواجَه كليّاً أو جزئيّاً بالرفض أو النفي من جانب سلطات البلدَين؛ إذ نفى - على سبيل المثال - كلٌّ من الناطق باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، ومسؤول في الإدارة الأميركية تحدّث إلى وكالة «رويترز»، ما يدور من أخبار حول محادثات بين طهران وواشنطن في شأن ما بات يُعرف إعلاميّاً بـ«الاتفاق المؤقّت». ويجري ذلك في موازاة تأكيد الطرفَين - مبدئيّاً - حصول محادثات عُقدت، أخيراً، في كلٍّ من مسقط ونيويورك. وأبلغ مصدر مطّلع قريب من الفريق الإيراني المفاوض، «الأخبار»، فحوى المحادثات الأخيرة بين البلدَين، قائلاً إن «الموضوع الرئيس للحوار الأخير، دار حول استكمال المحادثات السابقة في شأن ملفّ الإفراج عن ثلاثة سجناء أميركيين، في مقابل الإفراج عن جزء من الأرصدة الإيرانية المجمّدة. ووُضع هذا الملفّ، خلال العامَين الأخيرَين، قيد التداول، بالتوازي مع المحادثات الرامية إلى إحياء الاتفاق النووي، علماً أنه لا يمتّ بالضرورة إليها بصلة، كما أن إيران توصّلت إلى اتّفاقات مع الدول الأوروبية حول تبادل السجناء». وأضاف المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه: «تماشياً مع إحراز تقدُّم في المحادثات المتعلّقة بملفّ الإفراج عن السجناء، في مقابل الإفراج عن جزء من الأرصدة الإيرانية، وضع الطرف الأميركي اقتراحات على الطاولة تقوم على توقّف إيران عن تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%، مقابل الإفراج عن أقسام أخرى من الأصول الإيرانية المجمّدة، وكذلك إيجاد بعض الانفراجات في مجال مبيعات النفط الإيراني. وكانت هذه مجرّد اقتراحات تمّ تبادل الرأي في شأنها، لكنه لم يتمّ بعد التوصّل إلى اتفاق أو اتّخاذ قرار».وعليه، يبدو أن ما أُثير في وسائل الإعلام عن «الاتفاق المحدود» أو «الاتفاق المؤقّت» بين إيران وأميركا، يدور في فلك الملف المذكور، علماً أن سلطات البلدَين تفضّل، في الظروف الراهنة، الإبقاء على الأمور طيّ الكتمان، خصوصاً أن اتفاقاً نهائيّاً بينهما لم يتبلور بعد.

لماذا «الاتفاق المؤقّت»؟
تولّدت فكرة «الاتفاق المؤقّت» قبل نحو ثلاثة أشهر، في الأوساط السياسية ومراكز صنْع القرار الأميركية. فوصول محادثات إحياء الاتفاق النووي إلى طريق مسدود، ابتداءً من أواخر الصيف الماضي، بالتزامن مع التقدُّم السريع المُحرَز في البرنامج النووي الإيراني وارتفاع مستوى التخصيب وكميات اليورانيوم المخصّب، كل ذلك جعل إيران تقترب يوماً بعد آخر من قدرات بناء السلاح النووي، ما رفع منسوب القلق في واشنطن، وعزّز الفكرة القائلة بأنه في السياق الذي تنعدم فيه إمكانية إحياء «خطة العمل المشتركة الشاملة» بالكامل، وبعدما لم تفلح العقوبات الأميركية الواسعة في لجم البرنامج النووي، وفي وقت تبدو فيه الخيارات الأخرى - بما فيها العسكري - صعبة للغاية ولها تداعيات، يمكن تحييد التصعيد من خلال اتفاق محدود. ومن هنا، طُرحت فكرة وقف التخصيب بنسبة 60%، والتي أكدها المصدر الإيراني المطّلع الآنف الذكر، بهدف إبطاء تطوير البرنامج النووي الإيراني.
من ناحية أخرى، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، تريد إدارة جو بايدن - التي فضّلت دائماً الخيار الدبلوماسي على سائر الخيارات المطروحة على الطاولة -، ترحيل «المشكلة الإيرانية» إلى ما بعد الانتخابات. وهكذا، بات العمل على عدم حصول إيران على السلاح النووي أو حتى قدرات تصنيعه، يمثّل أولوية استراتيجية بالنسبة إلى الأميركيين في الوقت الراهن، بل إنه تحوّل إلى موضوع مهمّ للنقاش على هامش الرئاسيات الأميركية. ولذا، فإن التحكّم بمستوى التصعيد مع إيران بالطرق الدبلوماسية، قد يشكّل، في الظرف الحالي، أقلّ الخيارات تكلفة بالنسبة إلى بايدن الساعي للحدّ من تصاعد التوتّرات أو منع اندلاع اشتباكات عسكرية، وإنْ كانت غير مقصودة، في واحدة من أهمّ المناطق الاستراتيجية في العالم. ومع ذلك، رفض المسؤولون الإيرانيون، إلى الآن، أيّ اتفاق نووي خارج إطار «خطة العمل الشاملة المشتركة»، وأكدوا مراراً أنهم لن يرضوا بأقلّ من الاتفاق المبرم عام 2015. وفي هذا الجانب، قال الناطق باسم «الخارجية»: «(إنّنا) نتابع خطّة العمل الشاملة المشتركة تلك، والمحادثات تجري في إطار هذه الخطّة، وليس هناك أيّ اتفاق مؤقّت بديل عن الاتفاق النووي مدرج على جدول الأعمال».
رأى البعض أن تصريحات المرشد تُعدّ بمثابة ضوء أخضر لإبرام اتفاق جديد مع أميركا


وفي سياق متصل، أثارت التصريحات الأخيرة للمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، آية الله علي خامنئي، والتي قال فيها إنه «لا مشكلة في إبرام اتفاق، لكن لا يجب المساس بالبنية التحتية للصناعة النووية»، تكهّنات كثيرة حول ما يقصده من الحديث عن «اتفاق». ورأى البعض أن هذه التصريحات تُعدّ بمثابة ضوء أخضر لإبرام اتفاق جديد مع أميركا، فيما أشار آخرون إلى الأقسام الأخرى من كلمته، والتي دارت حول الاتفاق الذي تمّ التوصّل إليه بين إيران و«الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، في آذار الماضي، والذي حدَّد متطلبات التعاون بين الجانبَين. من هنا، يقول هؤلاء إن المرشد لم يقصد «الاتفاق» مع الولايات المتحدة، ولكن مع الوكالة الأممية. وكانت إيران والوكالة توصّلتا، خلال زيارة مدير الأخيرة، رافاييل غروسي، لطهران، في آذار الماضي، إلى اتفاق حول القضايا العالقة بينهما، بما فيها وضع ثلاثة مواقع إيرانية غير معلنة، واكتشاف يورانيوم مخصّب بنسبة 84% في منشأة «فردو»، وكذلك إعادة تشغيل كاميرات المراقبة التابعة للوكالة، والتي قرّرت طهران، على مدى العامين ونصف العام الماضية، إغلاقها عملاً بقرار من البرلمان.
ويرى مراقبون أن هذا الاتفاق يمهّد لخفض التصعيد على المستوى النووي، الأمر الذي تحقَّق أيضاً مع عدم مصادقة مجلس محافظي الوكالة، خلال اجتماعَيه الدوريَّين الأخيرين على الأقل، وعلى النقيض من اجتماعاته السابقة، على قرار ضدّ الجمهورية الإسلامية، على رغم أنه لم تتمّ حتى الآن تسوية جميع القضايا الخلافية العالقة. وإذ شدّد خامنئي على التعاون مع الوكالة، فهو قال إن هذا التعاون يجب أن يكون في إطار «اتفاقات الضمانات» وليس «ما بعد اتفاقات الضمانات»، ما معناه معارضة تطبيق البروتوكول الإضافي (وافقت إيران على تطبيقه طوعيّاً بموجب الاتفاق النووي، بيد أن البرلمان أوقف تنفيذه). ومع ذلك، قبلت طهران، في اتفاقها الجديد مع الوكالة، إعادة تشغيل كاميرات المراقبة التي تندرج في إطار «ما بعد اتفاقات الضمانات». وعلى رغم أن المرشد الأعلى لم يمانع الاتفاق (بغضّ النظر عمّا يقصده بالاتفاق ومع أيّ طرف)، غير أن اشتراطه «الحفاظ على البنية التحتية النووية الحالية للبلاد» وكذلك الالتزام بقرار البرلمان، يتعارض مع أيّ صفقة شاملة.
وفي ظل هذه الأجواء، يصبح الاتفاق المحدود، هو السبيل الوحيد من منظور إيران والولايات المتحدة للسيطرة على التوتّر، بمعنى أن يَقبل البلدان تفادي الإجراءات التي تنتهك الخط الأحمر للطرف الآخر، وذلك لمدّة محدّدة قد تنتهي على الأرجح مع انتهاء الرئاسيات الأميركية المقبلة. وهكذا مستوى من الاتفاق قد يكون مقبولاً على الأرجح في إيران بمعزل عن المواقف التي اتُّخذت إلى الآن، لأنه يضع موارد مالية، وإنْ كانت محدودة، بتصرّف الحكومة الإيرانية لتوفير الغذاء والدواء وبعض السلع الأساسية، وفي الوقت ذاته لا يكبح جماح التطوّر النووي والقدرات الصاروخية والإمكانات المتّصلة بالطائرات المُسيرة. وبذلك، تبقى الآليات التي تنوي الجمهورية الإسلامية اعتمادها في المحادثات الأكثر جدية والمحتملة في المستقبل للحصول على تنازلات، على حالها من دون تغيير.
ونظراً إلى جميع المعلومات والقرائن، فإن تجميد التصعيد الحالي وترحيل تسويته إلى زمن ما في المستقبل - أي الاتفاق المحدود - يبدوان، في ضوء تبادل السجناء بين إيران وأميركا، أمراً وشيكاً وممكناً. لكن يجب أولاً معرفة ما إذا كان قادة إيران والولايات المتحدة سيقبلون بالأثمان السياسية لهكذا اتفاق؟ وما الذي سيكون عليه دور اللاعبين الإقليميين، بمن فيهم روسيا وإسرائيل، في صمود أي صفقة محتملة من هذا النوع؟