كان يمكن لزيارة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لتركيا، يوم الجمعة الماضي، أن تمرّ من دون تداعيات. فالملفات المشتركة بين البلدين واضحة في هذه المرحلة، من تمديد اتفاقية الحبوب، والبحث عن عمليات تبادل جديدة للأسرى، إلى التعاون الثنائي التجاري والعسكري والدور التركي الوسيط في إحلال السلام بين أوكرانيا وروسيا. غير أن كل هذه الملفات تراجعت في سلّم الاهتمام العام، ليتقدم موقف تركي جديد من قضية انضمام كييف إلى «حلف شمال الأطلسي»؛ إذ اعتبر الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بحضور زيلينسكي الذي يزور تركيا للمرة الأولى، أن لكييف «بلا ريب، الحق في الانضمام إلى عضوية حلف شمال الأطلسي». ويأتي هذا الكلام «الصعب» في ظل معرفة إردوغان الجيدة أن الحرب الروسية على أوكرانيا إنما كانت حرباً استباقية لمنع الأخيرة من الانضمام إلى الحلف بعدما طلبت منه ذلك، ولولا انفجار الحرب لربما كان مسار الانضمام الأوكراني قد أخذ مجراه. لذا، كان موقف إردوغان مفاجئاً جداً ومثيراً للاستياء الضمني لدى موسكو. غير أن مواقف المسؤولين الروس أو المصادر الروسية حاولت أن تخفف من وقع الموقف التركي بالتقليل من أهميته وتأثيره.ونقلت صحيفة «جمهورييات» التركية عن عضو «مجلس الدوما» الروسي، ديميتري بيليك، اعتباره تصريح إردوغان «نوعاً من التحريض»، وقوله إن غالبية الكلام الذي صدر عنه سيظلّ «ضمن إطار التمنيات». واستدرك بيليك بأن تصريح الرئيس التركي يعكس رغبته في القيام بدور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا، وهذا «أمر مناسب»، مضيفاً أن إردوغان «يطلق ذلك الكلام ضمن مناورة سياسية من أجل مصالح بلاده وأطماعه الشخصية. ولكن هذا لن يأتي بمعنى التأثير على نتائج المحادثات»، متابعاً أن تمديد اتفاقية الحبوب هو في مصلحة أنقرة، لكن موسكو هي التي تتخذ القرار. وأشار ليونيد سلوتسكي، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في «الدوما»، إلى أن حياد أوكرانيا هو أحد المطالب الروسية لوقف الحرب، والذي عرضته موسكو بوضوح خلال المحادثات التي جرت في إسطنبول في نهاية عام 2022 بين روسيا وأوكرانيا، و»هذا الموقف لم يتغير». ولم يرَ سلوتسكي في محادثات إردوغان وزيلينسكي خطراً على روسيا، ولكن «كلمات الثناء المفعمة التي وجّهها إردوغان إلى كييف لا يمكن أن تخلق مشاعر إيجابية في موسكو».
كذلك، أحدث إعلان زيلينسكي عودة خمسة من قادة «كتيبة آزوف» الأوكرانية إلى بلادهم، استياء روسيا من تركيا. فالمتحدث باسم الكرملين، ديميتري بيسكوف، رأى في هذه الخطوة «انتهاكاً لاتفاق تبادل الأسرى السابق بين روسيا وأوكرانيا، والذي قضى بتسلم تركيا القادة الخمسة وبقائهم فيها إلى حين نهاية الحرب»، لافتاً إلى أن «أنقرة لم تبلغ موسكو مسبقاً بقرارها هذا». وحول إمكانية اللقاء بين الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، قال بيسكوف إن «اللقاء ممكن، وقد يكون في آب المقبل بزيارة بوتين أنقرة، لكنّ شيئاً لم يتحدد حتى الآن». أيضاً، فإن محطة أخرى من زيارة زيلينسكي لم تكن موضع ترحيب روسي، وهي لقاؤه ومعه زوجته بطريرك تركيا للروم الأرثوذكس بارتولوميوس، وتبادل الكلمات الحارة بين الرجلين؛ إذ وصف البطريرك زيلينسكي بأنه «صديق قديم»، فيما قال الأخير إن أوكرانيا ممتنّة للأول الذي «يدعم في صلواته جنودنا وشعبنا والأسرى». وأدرج مراقبون هذه التصريحات في إطار الخلاف بين الكنيستين الأوكرانية والروسية، ومحاولة زيلينسكي حشد دعم الكنائس الأرثوذكسية الأخرى في إسطنبول وأثينا في مواجهة الكنيسة الروسية.
الظاهر أن إردوغان يمهّد من الآن لمشاركة شركات بلاده بكثافة في الاستثمار وإعادة بناء أوكرانيا بعد انتهاء الحرب


وبالعودة إلى تأييد إردوغان انضمام أوكرانيا إلى «الناتو»، فهو يشكّل مكسباً «أطلسياً» كبيراً، كونه يتعارض بقوة مع موقف روسيا، ويعدّ بمثابة إزالة مبكرة لأي عقبة تركية أمام كييف في حال قرر الحلف تصعيد المواجهة مع موسكو بقبول انضمام أوكرانيا إليه. لكن الموقف التركي يمكن أن يعدّ «رشوة» لـ»الأطلسي» عشية اجتماع قادته غداً الثلاثاء في فيلنيوس عاصمة ليتوانيا للبحث في قضية انضمام السويد إليه، وللولايات المتحدة أيضاً لتشجيعها على الموافقة على حسم قرارها بيع طائرات «إف 16» العالق حتى الآن في الكونغرس. ويصف الكاتب التركي، مراد يتكين، موقف إردوغان المستجد بأنه «تصريح واضح ضد روسيا»، وخصوصاً أنه تزامن مع استقبال وزير الخارجية حاقان فيدان رئيس تتار القرم والنائب في البرلمان الأوكراني، مصطفى قرم أوغلو، في اليوم نفسه في إسطنبول. ويرى الكاتب أن الموقف التركي الأخير يتصل بمسألة طلب السويد الانضمام إلى «الناتو»، عادّاً إياه رسالة اعتراض على عضوية الأخيرة عشية انعقاد قمة فيلنيوس.
والظاهر أن إردوغان يمهّد من الآن لمشاركة شركات بلاده بكثافة في الاستثمار وإعادة بناء أوكرانيا بعد انتهاء الحرب، فضلاً عن التعاون العسكري المتنوع القائم حالياً بين أنقرة وكييف، ومنه ما توافق عليه الرئيسان في اجتماع إسطنبول من مشروع لإنتاج مشترك لمسيّرات «بيرقدار». وتقول دينيز كيليس أوغلو، في «ميللييات»، إن تركيا تعمل على الموازنة في موقفها من طرفَي الصراع، ولا تريد، في ظل علاقات جيدة مع روسيا، أن تترك أوكرانيا وحيدة. لذا، كان تأييد إردوغان لانضمام أوكرانيا إلى «الأطلسي» «موقفاً قوياً جداً». وتلفت إلى أنه حتى اللغة التي استعملها زيلينسكي تجاه روسيا في المؤتمر الصحافي مع إردوغان، كانت «معتدلة»، عازيةً ذلك ربما إلى أنه لا يريد عرقلة تمديد جديد لاتفاقية الحبوب ولا تصعيب مهمة تركيا في اتفاقيات مستقبلية لتبادل الأسرى.
وتكاد معظم الصحف الغربية، ولا سيما الأميركية، تكيل الثناء لإردوغان لموقفه الواضح من مسألة عضوية أوكرانيا في «الأطلسي». وترى غالبية هذه الوسائل أن تركيا تتهيّأ لدور ريادي في عملية السلام الروسية - الأوكرانية، كما أنها تدين «الاحتلال الروسي» لأوكرانيا، وتزوّد الأخيرة بمسيّرات «بيرقدار». وستكون المباحثات التي سيجريها، اليوم، الأمين العام لـ»الناتو»، ينس ستولتنبرغ، مع كلّ من إردوغان ورئيس وزراء السويد ذات أهمية لكي يبني اجتماع الحلف غداً وبعد غد على الشيء مقتضاه. ومع إن إردوغان لا يزال يقول إن الموافقة على عضوية السويد من عدمها مرتبطة بمدى صدقيتها في مكافحة الإرهاب، ولا سيما منع النشاطات الكردية المعادية لتركيا في السويد، فإن غالبية الإعلام الغربي لا يزال يربط بين الموقف التركي النهائي من عضوية السويد ومسألة بيع طائرات «إف 16».
لكن الإعلام التركي الموالي لا يزال ينظر بشكوك إلى المواقف الأميركية. فصحيفة «يني شفق» تحدثت عن ثلاثة أسئلة على واشنطن أن تجيب عنها، وهي: إلى متى سيبقى الرئيس الأميركي، جو بايدن، يتحدث عن تقوية «الأطلسي» في وقت لم تبادر فيه واشنطن منذ ثمانية أشهر إلى أي خطوة لبيع طائرات «إف 16» لأنقرة؟ كيف يمكن أن يقوى الحلف في وقت يفرض فيه قانون «كاتسا» عقوبات على تركيا؟ وكيف يمكن تعزيز الدفاع الجماعي لـ»الناتو»، بينما تدعم تركيا «حزب العمال الكردستاني» في سوريا؟
على صعيد آخر، ذكرت صحيفة «حرييات» أن إردوغان ورئيس وزراء اليونان سيلتقيان يوم الأربعاء على هامش قمة «الأطلسي» في بروكسل. وقالت إن اللقاء سيفتح أمام المزيد من تطبيع العلاقات مع اليونان. لكنها أشارت إلى أن الموضوع القبرصي يبقى الوحيد الذي لم يحرز أيّ تقدم بشأنه، حيث تصرّ أنقرة على أن يحلّ على قاعدة قيام دولتين وهو ما ترفضه اليونان.