«عصفور»
«أطفال المخيم» (فحم على ورق على كانفاس ــ104 × 104 سنتم ــ 2022)
سوف يغامر أكثر بصلب امرأة ترتدي السواد بمسامير في اليدين والقدمين، وآثار رصاصة في الجبين. إنها، على الأرجح، نسخة متخيّلة من البلاد، بنظرة تحدٍ عميقة وخاطفة. صادم، هذا ما كان يردده ضيوف المعرض، وهم يغرقون في هذه المشرحة البشرية. مشرحة أم مسلخ؟ بتشبيه مباغت، نحن أمام قصّاب بكامل سكاكينه وسواطيره، يعيد لنا تمثيل الجريمة بحذافيرها، ألسنا ذبائح في هذا الممر الإجباري للموت؟ عبدلكي يدقّ الخزّان بعنف كي لا نختنق أكثر في هذه الصحراء المفتوحة على اللايقين، والصراع الدامي بين ليونة الوردة وصلابة المسمار، ورغم المساحة الشاسعة للوحة، إلا أن عبدلكي يسيطر على الكادر بمهارة وانتباه، مضيفاً قيماً جديدة لاشتغالاته التعبيرية، فهو هنا يتحدى نفسه في المقام الأول لجهة الحجوم وسطوحها أولاً، ولجهة ارتفاع منسوب العنف الذي يتوغل إلى مسامات الكتلة، وكذلك الخطوط الصارمة في العمارة التشكيلية. وإذا بالسكين خارج فعل الذبح تتخذ معماراً جمالياً آسراً، وحساسية مرهفة في التكوينات، سواء أكانت سمكة في طبق أم أنين مزهرية أم عائلة من الأرامل، فما يحدث بين الجدران المتقابلة هو بيان ضد الهمجية، وهتك مضاد للهمجية التي ألقت بثقلها على مفاصل العيش. أسود وأبيض ورمادي، بمثل هذا الزهد اللوني، يبني عبدلكي عالمه بدقّة داخل عتمة كتيمة بالكاد تفسح ضربة خاطفة للبياض في لعبة تضاد معلنة، معوّلاً على الدلالة في ترسيخ أفكاره حيال ما يحيط به من مآتم متعاقبة. سنكرّر في كل مرّة، ونحن نتلقى أعماله، ما قاله إدواردو غاليانو «الألم يقتل اللون»، وتالياً لن نقع على وليمة للألم أكثر فجائعيّة من هذه. على الأرجح، سنجد هذا اللون متوارياً تحت سطوح الأعمال كشاهد على جريمة أو مذبحة أو فقدان، وسننسج وقائعها وفقاً لعمل هذه المتواليات، ومقدار الطعنة.
«يد»
«جمجمة»
من المعرض
هكذا تتحوّل الطبيعة الميتة إلى أرواح متوثّبة، بدفق شعري يتسلل بمهابة من منطقة الظل، ذلك أن رهافة قلم الفحم، لا تتوقف عند بهجة الاكتشاف والرصد والمعاينة، إنما تحلّق عالياً في إعادة الاعتبار إلى الفراغ، والمراهنة على إضاءة الكتلة المركزية بخطوط صارمة ومتقشفة، تمنحها بريقاً إضافياً، وتكشف عن إيقاعاتها الداخلية، وإذا بأرشيف الأسى يزداد قتامة وثقلاً، عملاً وراء الآخر، في جناز طويل، لعالم قائم على الفزع والتدمير المنهجي للداخل، بإحالته إلى مجرد هيكل عظمي كان ينبض بالحياة قبل قليل. على المقلب الآخر، وبتحديقة مركّزة نحو مصائر هذه الكائنات المحاصرة، سنرتطم بحالة تمرّد وعصيان وشهيق كرامة تتسرب من الأنفاس، على رغم حجم التنكيل الذي يحيق بها. سوف يصف الشاعر الفرنسي آلان جوفروا هذه المناخات الجحيمية بقوله: «كل شيء يجري، كما لو أن يوسف عبدلكي يريد إعادة ابتكار العالم وحمايته إلى الأبد من الإهانة، من اللامبالاة، من النسيان». سيلخّص عبدلكي رؤيته النقدية واشتغالاته المضادة، بقوله: «متى فقد العمل الإبداعي، أو الثقافي، على وجه العموم، علاقته مع محيطه، يفقد شرعيته وجدواه». هذا معرض استثنائي يُعيد الألق إلى المشغل التشكيلي السوري بعد غياب.
* معرض يوسف عبدلكي: حتى 20 تموز (يوليو) ـــــ «غاليري جورج كامل» (دمشق ـ سوريا) ـــ للاستعلام: 963/944410641