في عالمٍ مثالي، تُقاس أهمية الوظائف بمدى تأثيرها على سلامة المجتمع وتنميته المستدامة. من هذا المنطلق، يكون مبرراً أن تكون المهن المرتبطة بالصحة والتعليم والنظافة... على رأس سلّم الوظائف المهمّة، بسبب مساهمتها في الحفاظ على صحة ووعي كوادر تخدم الحاضر والمستقبل.ولأن هذا العالم ليس «فاضلاً» ولا «مثالياً»، يتقاضى المعلمون والأطباء وعمّال النظافة غيرهم... أجوراً أقل بكثير من متوسط ​​راتب الرياضيين المحترفين. بمقاربة أدق، تفوق مكافآت هدف واحد يسجّله كريستيانو رونالدو مثلاً ما يجنيه معلم طيلة عام، وهو أمر مشابه لكل سلة يحرزها ليبرون جايمس مقارنةً بمتوسط الراتب الشهري لطبيب...

ليس انتقاصاً من قيمة الرياضة في المجتمعات. وجود الرياضيين مهم. ولكن ليس تبجيلاً للمال كمقياس للقيمة، الصحة أهم بلا شك. ما يُثير الرّيبة بالدرجة الأولى، هو حجم هوة الأجور بين الرياضة وباقي الوظائف. فما تبرره العولمة، يدحضه الوعي.
في هذا الصدد، انقسم الرأي العام بين مؤيدٍ ومعارضٍ لحجم أجور اللاعبين ومدى تضخم الصفقات في سوق الانتقالات. منهم من رأى أن التضحيات التي يقوم بها الأفراد من أجل الوصول إلى عالم الاحتراف، بما في ذلك من مجهود كبير في التدريب والمخاطر الصحية الهائلة التي يتعرضون لها، تستوجب المكافأة بأجرٍ كبير، خاصةً أن متوسط مسيرة اللاعبين قبل الاعتزال يُقدّر بسِن الخامسة والثلاثين. على الجهة المقابلة، اعتبر آخرون أن الرياضيين لا يفعلون شيئاً أكثر من الترفيه عن عامة الناس، لذا، يجب أن تكون أجورهم أدنى بكثير من التي يتقاضونها.
يدعم هذا الرأي المدرب البرتغالي جوزيه مورينيو، الذي يُعد أحد أبرز وجوه كرة القدم العالميّة، حيث أشار عام 2015 في مقابلة مع صحيفة «تلغراف» البريطانية إلى أن «الرياضيين لا ينقذون أرواحاً. أنا أعشق كرة القدم بطبيعة الحال، لكن أن تكون هي كل شيء في حياتنا، ونحن الذين نعتبر أنفسنا على مستوى عالٍ من المهنية، فبالتأكيد نحن واقعون في مشكلة خطيرة». ثم أردف:«في البرتغال يقولون إنك تستطيع تغيير أي شيء تريده، باستثناء أمّك وكرة القدم، وأنا بالتأكيد أفهم ذلك، لأن كرة القدم لديها قوة كبيرة على الصعيد الاجتماعي، الثقافي والسياسي، لكن هذا لا يعني أن يكون لاعب كرة قدم في قائمة أعلى 100 شخص مؤثرين في العالم، حسب مجلة فوربس».

البداية من إنكلترا
تضخُّم أجور الرياضيين مقارنةً بمتوسط دخل الأفراد يظهر بشكل واضح في كرة القدم، تحديداً في إنكلترا، مهد الكرة وعرّابتها. للمفارقة، كانت الأمور مختلفة عند النشأة مقارنةً بما هي عليه الآن، إذ لعبت العديد من العوامل دوراً بارزاً في «جنون» أسواق الانتقالات.
ظهرت كرة القدم كلعبة ترفيهية في بداية القرن التاسع عشر، لتتحول مع الوقت إلى صناعة تدرّ مليارات الدولارات. تمّ تشكيل الأندية من لاعبين موهوبين في شوارع شيفيلد ونوتنغهام... بهدف ممارسة الرياضة، «مجّاناً»، بعد إنهاء وظائفهم. ومع ملاقاة اللعبة شعبية جارفة في الأوساط، دخلت عالم الأعمال عام 1884. فاز فريق بريستون نورث إند حينها على نظيره لندن أبتون بارك في كأس الاتحاد الإنكليزي، وتبيّن لاحقاً حصول لاعبي بريستون على أجور مقابل اللعب.
كان لنقابات اللاعبين والوكلاء دور بارز في تضخيم الأسعار والأجور


على خلفية ذلك، طرد الاتحاد الإنكليزي لكرة القدم فريق بريستون عقاباً له على كسر الأعراف، لكن في العام التالي مباشرةً، رأى اتحاد الكرة أنه من مصلحة اللعبة توظيف لاعبين محترفين يتقاضون أجوراً، وفق قيود محددة تصبّ في مصلحة أبناء المدينة التي يندرج منها كل فريق.
هكذا، تشكّلت الأندية الاحترافية ودُفع للاعبين أجورٌ تلامس المتوسط السائد من دخل الفرد، كما وُضعت قوانين صارمة للحفاظ على حد أقصى للأجور. لكن، ومع تطور كرة القدم وانتشارها بين مختلف الدول، خرجت الأمور عن السيطرة.
أصبح اللاعبون أصولاً للفرق، التي تشكّل بدورها منفساً للجماهير. ومع ارتفاع قيمة اللاعب في الأوساط الجماهيرية، زادت مطالبه بمستحقّات ومكافآت منوّعة فظهرت تباعاً نقابات اللاعبين ومن خلفها الوكلاء، الذين كان لهم دور بارز في تضخّم الأسعار والأجور.
ومع وصول شعبية الكرة إلى أوجها مطلع الألفية الجديدة، تسلّلت ثقافة الشركات إلى عالم المستديرة، فظهرت عقود الدعايات والبث التلفزيوني الضخمة كما العلامة التجارية لكل لاعب...
وبحسب صحيفة «ذا تايمز» فإن مانشستر يونايتد صرف على رواتب العام الماضي مبلغاً وصل إلى 384 مليون جنيه إسترليني، في زيادة مقدارها 45% عن عام 2017، مقابل 366 مليوناً لليفربول بزيادة 75% عن عام 2017.
هكذا دخلت كرة القدم، والرياضة من خلفها، في دائرةٍ مفرغة من شقّين: مضاربة الأندية المستمرة على اللاعبين من جهة للحفاظ على نسقٍ فني يضمن درّ عائدات ضخمة، وشركات جشعة تستثمر في الرياضة لتحصل على أموال مضاعفة مع نهاية كل موسم. والأكيد أن عملية تسليع كرة القدم والرياضة بشكل عام ستستمر وتكبر مع الوقت.