شهرة كريستوفر نولان (1970) تسبقه، وهذا شيء جيد وسيء بالنسبة إلى أفلامه. جيّد تجارياً بالطبع، لأنّ هوليوود تحبّ المخرج المصمّم الذي دائماً ما تكون أفلامه ناجحة في شباك التذاكر. لكن فنياً، يعني ذلك أن تكون جزءاً كبيراً من حوار سينمائي يعشق وضع المخرجين في قوالب جاهزة ضيقة الأُفق. وعندما تتعارض توقعات هذا الحوار مع حقيقة عمل مثل «أوبنهايمر» (2023)، فإن الكارثة مؤكدة تقريباً. ذلك أنّ هناك احتمالاً كبيراً أن يتم فهم الفيلم ورؤيته فقط من خلال معايير محددة مسبقاً لا تعطيه حقه. التركيز المتواصل على المهارات التقنية للفيلم، وكيفية مشاهدته أو عدم مشاهدته، والوقت الذي استغرقه التصوير، وفرص استحواذه على جميع جوائز الأوسكار، وتوقع انفجار ذري كافٍ لإسقاط جدران دور السينما... كل هذا، هو حديث تسويقي، ومشاهدة الفيلم بهذه المصطلحات والتوقعات، سوف تجعل المشاهدة مخيّبة للآمال. «أوبنهايمر» لن ينال إعجاب كثيرين بسبب التوقعات المسبقة، لأن نولان ابتعد قليلاً عن طريقة أعماله الأخيرة، ووجد نفسه مجدداً في المنحى التجريبي، ووضعه في قلب قصة حقيقية مليئة بالفيزياء التي يعشقها، ليعطيها أبعاداً كونية.

يحتوي الفيلم، الذي طرح أخيراً في الصالات اللبنانية، على كل ما يجعل نولان أحد أهم مخرجي عصرنا. إنه التجانس المثالي بين السحر السينمائي، وعظمة الشاشة، والهيكل المعقّد البسيط والحوارات المحكمة والذكية والاختيار الممتاز للأدوار، والموسيقى (لودفيغ غورانسون) وشريط الصوت (ريتشارد كينغ)، اللذين يعملان في كثير من الأوقات كوسائط مستقلة ومنفصلة عن الصورة. لذلك، إذا كنت هنا من أجل نولان، نولان الحقيقي، غير الملوث بحرّاس النخبة، فلن يكون هناك فيلم أكثر «نولانية» في مسيرته حتى الآن من «أوبنهايمر». البريطاني البارز في هوليوود، يقدم سيرة من دون رسائل ولا بيانات. فيلم ثابت بإيقاعه، بسرد مقطَّع حسب المواضيع وبالألوان والأبيض والأسود، منفصل كما عادته عن التسلسل الزمني والمكاني أو في بعض الأحيان كلاهما. نولان ملك في السرد السينمائي، وفي «أوبنهايمر» يتألق ضمن سرد منظّم بعناية، وبشكل غير منتظم. ينضح الفيلم بمخاوف نولان الذي أفصح عنها في أفلامه السابقة: الرجل والمرأة حاملا الحزن، عبء الآخر والهوية، الصداقة الذكورية كحقل للتوترات، والعلاقات القوية المكبوتة، والأنا كقوة تدفع البشر نحو هواجسهم ونهايتهم.
استناداً إلى كتاب «بروميثيوس الأميركي: انتصار ومأساة ج. روبرت أوبنهايمر» (2005)، يسرد نولان في «أوبنهايمر» قصة حياة ج. روبرت أوبنهايمر (1904 – 1967) عبقري الفيزياء، الذي جلب فيزياء الكم إلى أميركا، هو المعروف بأنّه «أب القنبلة الذرية»، لكنّ مساهماته تتجاوز ذلك. يثير ارتباطه بصنع القنبلة الذرية التي استخدمت في هجمات هيروشيما وناغازاكي، تساؤلات حول دوره في الإبادة الجماعية. يوليوس كما يسمّيه أحباؤه، كان أيضاً كائناً غير مستقر، مهووساً بذاته، مغرماً بالنساء، ووفقاً لنولان فهو أيضاً متمرد وشهيد. يلعب دور أوبنهايمر الممثل كليان مورفي بكثير من البراعة، كان العالم يهودياً ومهتماً بالطروحات الماركسية، ارتبط حين كان شاباً بالحزب الشيوعي الأميركي، وكذلك دعم الجانب الجمهوري في الحرب الأهلية الإسبانية. عُين من قبل ليسلي غروفس (مات ديمون) قائداً لـ«مشروع مانهاتن»، وهو مشروع سري يهدف إلى تطوير قنابل نووية في حمّى سباق التسلّح ضد النظام النازي. كان أوبنهايمر مزعجاً للمؤسسة السياسية الأميركية، وخصوصاً للويس شتراوس (روبرت داوني جونيور، بأداء درامي عالي). متعدد الأوجه هو «أوبنهايمر»، يعمل على مختلف المستويات، يقدم عناصر سيرة ذاتية (مغامراته الطلابية والحميمية، عشقه للفيزياء، علاقاته بأصدقائه) وخلفية مثيرة تتعلق بالخوف الأميركي من الأحمر والهلع من الشيوعية.
يقدم نولان فيلم رعب، يطرح تساؤلات حول إمكانية نهاية العالم بالتدمير النووي. والحدث الرئيس في الفيلم هو تجربة «ترينيتي» النووية في صحراء نيو مكسيكو في تموز (يوليو) 1945. والسؤالان الرئيسيان اللذان يدور حولهما الفيلم لمدة ثلاث ساعات هو ما إذا كان أوبنهايمر بطلاً أو مجرماً؟ خادماً مخلصاً للولايات المتحدة الأميركية أو جاسوساً للاتحاد السوفياتي؟ وهذان السؤالان يصعب الإجابة عليهما أيضاً بسبب الطبيعة المعقدة والمتناقضة للأحداث التاريخية وشخصية أوبنهايمر نفسه. يقدم السينمائي البريطاني دراما فيها إثارة قضائية وانتقام ضمن جلسات غير علنية تُحاك فيها المكائد وتهدف إلى إذلال وتدمير مصداقية العالِم، عقدتها وكالة الطاقة الذرية الأميركية، بناءً على تقارير لمكتب التحقيقات الفيدرالي أدت إلى إلغاء تصريح أوبنهايمر الأمني في أميركا المكارثية عام 1954.


«أوبنهايمر»، «بيغ بانغ» سينمائي، ضخم مدمّر في استنتاجاته، وعادل للعلماء المتورطين في تلك اللحظة التاريخية. يُظهر صورة لعالِم ذكي بمصير ملعون، على الرغم من أنه أصبح «أهم رجل في العالم» في المرحلة الأخيرة الفوضوية من الحرب العالمية الثانية، إلا أنّ زوبعة التاريخ لا تزال إلى اليوم تنزع عجلة القيادة من يديه. وعلى الرغم من أنه ليس واضحاً في الفيلم، فإن أوبنهايمر ـــــ على الرغم من محاولات إعادة إحياء مجده خصوصاً في عصر كينيدي ــــ مات وحيداً في ظل مجده السابق اللامع في النصف الثاني من الستينيات.
يبدأ الفيلم بالميثولوجيا الإغريقية، ويبني نولان شريطه على أساس واضح ولكن متقلب، فهو لا يزال يتمتع برفاهية اللعب بالزمن في الطريقة التي يسرد بها قصته. ثقل الفيلم هو الحوارات والتقلبات النفسية والتفسير الذي تقدمه شخصياته. يوضح نولان مرة أخرى أنه يتحكّم بالكامل بالإيقاع والوقت والسرد المجزّأ من خلال سرد هذه السيرة مرات عدة في الوقت نفسه. «أوبنهايمر» قصة ساحقة، مخبأة خلف إطار بصري وصوتي مغرٍ. في رؤية نولان، أوبنهايمر هو «بروميثيوس أميركي»، عالم من القرن العشرين تجرّأ أيضاً على سرقة النار من الآلهة لتقديمها كهدية للبشرية.
تجانس مثالي بين السحر السينمائي والهيكل المعقّد البسيط والحوارات المحكمة والذكية والاختيار الممتاز للأدوار


بعد الهجمات النووية على اليابان، شعر أوبنهايمر بالندم الذي دفعه ليكون المنتقد الرئيسي لأسلحة الدمار الشامل التي صنعها. بين صنع القنبلة وسقوطها على اليابان، سيظهر لنا نولان الكثير من التفاصيل الدقيقة بين اكتشاف أوبنهايمر العلمي وشعوره بالذنب، ومنها ينحرف السرد التاريخي والواقعي في الغالب إلى المستوى النفسي، حيث يمكننا عيش الانهيار النفسي لأوبنهايمر الذي يكشفه نولان ضمن حلول تجريبية سمعية بصرية مروّعة تشبه الكوابيس. حوّل نولان مقولة أوبنهايمر المقتبسة من كلمات فيشنو من الكتاب الهندوسي المقدّس «البهاغافاد غيتا»: «الآن أصبحت الموت، مدمّر العوالم»، إلى فيلم، أشعرنا بالرعب من دون أن يرينا إياه وترك لشاشاته حرية التحكم بمشاعرنا.
تغلّب نولان على توقّعات كثيرين، فقد كان يعلم أنّ جمهوره يتوقع رؤية العديد من الاختبارات الذرية والنار ومشاهد الدمار، ولكن بدلاً من ذلك هاجمنا بالصمت، أقلق راحتنا في انتظار الصوت. وبينما أعمى أعيننا بوميض القنبلة الذرية على الشاشة، وضعنا في مكان العباقرة الذي ينظرون إلى خليقتهم بذهول ولكن أيضاً بخوف. استغنى نولان عن المؤثرات الخاصة، وعرض فيلمه بشريط 70 ملم (يجب مشاهدته على أكبر شاشة ممكنة)، مركّزاً على الوجوه والعيون ليظهر هول تلك اللحظة التاريخية.
«أوبنهايمر» قصة إنسانية أثّرت على البشرية جمعاء، لا يريد نولان أن يشوّه صورة ج. روبرت أوبنهايمر أو تبرئته. هو يسعى فقط إلى تحديد الخطوط العريضة لشخصية كاملة، وتقديم قصة إنسان غير معصوم لا تتماشى أفعاله دائماً مع أفكاره، يضطر لاستجواب نفسه بانتظام. يود نولان أن يقول إن محاكمة أوبنهايمر الحقيقية بدأت لحظة انفجار القنبلة الذرية، في مكان ما في أعماق عقله، وعقوبته هي رؤى نهاية العالم التي تومض أمام عينيه مراراً وتكراراً، تماماً كما مزّق النسر كبد بروميثيوس!

* Oppenheimer في الصالات