بالتزامن مع تصاعد حدّة الاحتكاكات الروسية - الأميركية في سوريا، والتي وصل التراشق بشأنها إلى أعلى المستويات السياسية بين البلدَين، خرج وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، بتصريحات جديدة رافضة للوجود الأميركي، مقرونة بتهديدات مبطّنة. الوزير السوري الذي ترأّس وفداً رفيع المستوى خلال زيارته طهران، أشار أكثر من مرّة إلى الدور المعطّل الذي تحاول واشنطن لعبه لمنع أيّ تقدّم للحلّ في سوريا، سواءٌ في ملفّ اللاجئين، أو في الملفّات الأخرى العالقة، بما فيها الانفتاح العربي على دمشق، والذي قابلته واشنطن بحزمة ضغوط متواصلة على الدول التي أعادت علاقتها مع سوريا. وكان من المقرّر أن يرأس الوفد وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية، رئيس الجانب السوري في اللجنة الاقتصادية المشتركة، محمد سامر الخليل، على اعتبار أن هذه الزيارة تأتي في سياق العمل السوري - الإيراني لمتابعة نتائج المباحثات والتفاهمات التي تمّت بين الرئيسين السوري بشار الأسد، والإيراني إبراهيم رئيسي، خلال زيارة الأخير لدمشق في شهر أيار الماضي، لكنّ انضمام المقداد إلى الوفد أعطاه، بالإضافة إلى الطابع الاقتصادي، طابعاً سياسياً مهمّاً، في ظلّ التعقيدات الميدانية والسياسية في الملفّ السوري.وفي وقت يُعتبر فيه «مسار أستانا» الروسي، المسار الوحيد النشط للحلّ في سوريا، في ظلّ استمرار تجميد المسار الأممي (اللجنة الدستورية)، تتزامن زيارة المقداد إلى العاصمة الإيرانية مع تحديد موعد مبدئي لـ«لقاء أستانا» المقبل، في العاصمة الكازاخية، بعد أن أعادت الأخيرة ترحيبها باستضافتها الاجتماع قبل نهاية العام الحالي. ويأتي ذلك بالتوازي مع استمرار الجهود لعقد لقاء جديد على مستوى وزراء خارجية «الرباعية» (سوريا وإيران وروسيا وتركيا) لمناقشة خريطة الطريق الروسية للتطبيع بين دمشق وأنقرة، والتي تشهد تعثّراً نتيجة تواصل المراوغة التركية، وإصرار سوريا على وضع جدول زمني واضح لخروج القوات التركية، وهو ما أعاد المقداد التشديد عليه بوصفه «نتيجة طبيعية لا بدّ منها قبل الانتقال إلى معرفة شكل العلاقات الطبيعية بين البلدَين الجارَين». كذلك، رفع المقداد من نبرة تصريحاته في ما يتعلّق بالوجود الأميركي غير الشرعي، قائلاً إن «جرائم الاحتلال الأميركي في سوريا لا يمكن أن تستمرّ، والشعب السوري لن يتحمّل ذلك إلى ما لا نهاية، وعلى جيش الاحتلال الأميركي أن ينسحب من الأراضي التي يحتلّها (...) قبل أن يُجبَر على ذلك»، في إشارة إلى المقاومة النشطة في الشمال الشرقي من سوريا، مذكّراً في السياق ذاته بسرقة القوات الأميركية النفط السوري، ومجدّداً وصف «قوات سوريا الديموقراطية (قسد)» بأنها «انفصالية ومجرمة ولا تريد الخير لبلادنا»، وفق تعبيره. وفي ما يمكن اعتباره أوّل تصريح سوري حول المبادرة العربية في شأن سوريا، بعد نحو أسبوعين من احتدام الجدل حول مصيرها، ألمح الوزير السوري إلى استمرار العمل السوري - العربي برغم الضغوط الأميركية، بقوله: «أشقاؤنا العرب لن يخضعوا للابتزاز الغربي، وهناك اتّصالات مع الدول العربية لكي تكون علاقاتنا معها بعيدة عن الدور الأميركي»، لافتاً إلى أن «الدول الغربية توعّدت بفرض عقوبات على الدول العربية التي تعيد علاقاتها مع سوريا».
تستمرّ المناوشات الروسية - الأميركية في سماء سوريا، في ظلّ الخروقات المتواصلة لاتفاقية «عدم التصادم» بين البلدين


وتعيد تصريحات المقداد، والتي تتزامن مع محاولة الولايات المتحدة تحصين مواقع انتشار قواتها في المناطق النفطية السورية، إلى جانب منطقة التنف، عبر استقدام تعزيزات جديدة تتضمّن آليات ثقيلة بينها أنظمة صواريخ، التركيز بشكل مباشر على توافق طهران ودمشق وموسكو، وحتى أنقرة، على ضرورة خروج القوات الأميركية من سوريا. وفي هذا الاتجاه أيضاً، جدّد وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، القول إن «قوات الاحتلال الأميركي تدعم الإرهابيين في سوريا، ونطالب بخروجها الفوري من الأراضي السورية لأن ذلك سيساعد على تحقيق الأمن والسلام في المنطقة»، بينما حاول المقداد نزع الغطاء الذي تستظلّ به واشنطن لإبقاء جنودها في هذا البلد، بتأكيده أن «سوريا وأصدقاءها قادرون على إنهاء وجود تنظيم «داعش»».
بموازاة ذلك، تستمرّ المناوشات الروسية - الأميركية في سماء سوريا، في ظلّ الخروقات المتواصلة لاتفاقية «عدم التصادم» بين البلدين. وفي هذا الإطار، أعلن نائب رئيس «مركز المصالحة» الروسي، أوليغ غورينوف، أن مسيّرات تابعة لـ«التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة انتهكت سلامة الرحلات الجوية في سوريا، 340 مرة خلال شهر تموز، مضيفاً أن الطائرات بدون طيار التابعة لـ«التحالف» نفّذت 1752 رحلة جوية غير منسّقة في المناطق التي حدّدتها بروتوكولات «عدم التصادم»، فيما سُجّلت منذ الأول من كانون الثاني 2023، 1761 حالة انتهاك لحدود سوريا. وفي تموز فقط، تمّ تسجيل 213 حالة، بينها 180 حالة خرق في منطقة التنف حيث تمرّ الخطوط الجوية الدولية، وبالتزامن مع تحليق طائرات مدنية في سماء المنطقة. في المقابل، دعا وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، روسيا إلى الالتزام بالقوانين التي تحمي المجالات الجوّية للدول، ووقف ما سمّاه «السلوك غير المسؤول»، في حين أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن بلاده لا تريد صداماً عسكرياً مع القوات الأميركية في سوريا، مؤكداً في الوقت ذاته أن قواته «مستعدّة لأيّ سيناريو». وتفتح هذه التهديدات المتبادلة الباب على مصراعيه أمام احتمالية زيادة مستوى الاحتكاكات، في ظلّ المساعي الأميركية المستمرّة لمنع أيّ اختراق للظروف الحالية التي تعيشها سوريا، واستمرار واشنطن في تحصين مواقعها وتكثيف نشاط طائراتها المسيّرة مقارنة بالأشهر الثلاثة الماضية.