«اعتادت» غالبية أهالي الكورة على الموت خنقاً. المؤتمر الصحافي «الهزيل» الذي عقدته لجنة كفرحزير البيئية أمس، اعتراضاً على استمرار عمل شركتَي الترابة في المنطقة، يشير إلى تأقلم الأهالي مع الموت. هل هو الخدر الذي يدفع الأهالي إلى الصّمت عن قضائهم المحتّم بالرّبو أو سرطان الرئة أو السلّ أو الحساسية الزائدة؟ أم إنها التجارب السابقة التي لم توصل إلى نتيجة؟ أم هو الإحباط من قدرة الشركتين، الترابة الوطنية والسويسرية - الفرنسية «هولسيم»، على رشوة غالبية بلديات المنطقة ومخافر الدرك والمسؤولين الرسميين، فضلاً عن الأحزاب السياسية والنّواب، فيُكملون حياتهم كأنهم لا يزالون يعيشون في الكورة الخضراء؟مرّ 80 عاماً من تدمير الجبال واقتلاع آلاف الأشجار وهلاك كروم التين والزيتون والعنب وحقول القمح. والآن، وصل التلوّث إلى المياه الجوفية وإلى أكثر من 30 نبعاً عذباً في المنطقة، من نفايات المعادن الثقيلة التي تنتجها مصانع الإسمنت. فيما يجمّع الموج على طول شاطئ شكّا تلالاً من الفحم الحجري الذي يسقط من السفن التي تزوّد معمل «هولسيم» بآلاف أطنان الفحم، عبر سنسول مخالفٍ في عمق البحر.
كان المشهد حزيناً في قاعة كنيسة القديس يعقوب في كفرحزير أمس. منظّم المؤتمر رئيس اللجنة جورج العيناتي، ومعه ناشطون معدودون على أصابع اليد مثل الأبونا لويس (سمعان حيدر) والأبونا انطون ملكي، يحترقون قهراً، ومعهم نحو 30 طفلاً وشاباً من الكشاف البيئي اللبناني. هؤلاء أطلقوا الصوت عالياً مطالبين بمنع حصول الشركات على استثناءات جديدة من وزارة الداخلية، بعد معلومات عن ضغوط تمارسها الشركتان على وزيرَي الداخلية والبيئة للحصول على تصاريح استثنائية لاستمرار العمل. بالمناسبة، وحدهم هؤلاء من الكورة حضروا للاعتراض على جريمة العصر! أما أهالي الضحايا، السابقين والحاليّين واللاحقين، فلم يجدوا الوقت للمطالبة بوقف موتهم في قضاء الـ 60 ألف ناخب.
متأخرّاً ثلث ساعة عن موعد المؤتمر، حضر النائب أديب عبد المسيح مع مرافقيه الذين انتشروا في الداخل والخارج لحمايته من «المخاطر» في دائرته الانتخابية. سبقته النائبة نجاة عون التي حضرت على الموعد المحدد عند الساعة 11. علامة إضافية لعون، لمحاولتها لعب دور «نائبة الأمة». فهي لم تغرق في المشكلات البيئية التي يعاني منها الشوف وحده، إنّما وصلت إلى الكورة.
لم يطرح عبد المسيح قيادة تظاهرة يتقدم فيها ومرافقوه المسلحون بالمسدسات وأجهزة التوكي ووكي أهالي الكورة، لوقف الحفارات والجرافات. بل أعلن افتتاح hiking track قرب مجرى نهر العصفور (سابقاً، إذ إن النهر لم يعد موجوداً) «نكايةً بالشركات» بحسب قوله. على الأقلّ كلّف عبد المسيح نفسه عناء الحضور، بينما تغيّب زميلاه النائبان فادي كرم وجورج عطالله لأسباب أهمّ طبعاً.
تبدو شركتا الترابة في الكورة أقوى من القدر ولا شي يمنعهما من مواصلة التخريب والقتل


السفارتان السويسرية والفرنسية لا داعي لمشاركتهما أيضاً. فـ«هولسيم» تلتزم بالقوانين في أوروبا، ولا يهمّ إن كانت تقتل اللبنانيين هنا وتدمّر بيئتهم. أما البطريركية المارونية، فتضحّي برعيّتها في الكورة ومحيطها، طالما أن شركتَي الترابة تدفع حصّتها من الأرباح، مع أنّ الشركتين لا تدفعان الضرائب للدولة، على ما أكّد عبد المسيح وعون في المؤتمر الصحافي.
هي أيّام قليلة وتعود فيها الشركتان إلى العمل، بترخيص من وزارة الداخلية أو بغضّ نظرٍ من هيئات إنفاذ القانون والقوى السياسية، بحجّة أن 300 الى 400 عائلة تعتاش من العمل في المعامل، بينما في الواقع يعتاش آلاف آخرون من الرشى.
تبدو شركتا الترابة في الكورة أقوى من القدر. لا شي يمنع شركتي الإسمنت من الاستمرار في التخريب والقتل. لا شيء، لا أحد، لا الدرك ولا القضاء ولا اتحاد البلديات ولا البلديات ولا الأحزاب. هل هناك من يدفع أهالي الكورة، الأحياء منهم طبعاً، إلى الكفاح المسلّح ضد الشركتين كما حصل في الثمانينيات؟ ربّما.