عن واحد وتسعين عاماً، غاب فنّان الجرح الإنسانيّ العميق، الرسام والنحات الكولومبيّ فرناندو بوتيرو (1932 ـــ 2023) تاركاً مسيرة مديدة، وإرثاً فنّياً عظيماً. حملت تجربة بوتيرو خصوصيةً واضحة بين أبرز التجارب الرائدة في الفن الحديث، تنوعت مصادرها بين الرسم والنحت. كان يصف نفسه بأنّه «أكثر الفنانين الكولومبيين انتماءً إلى كولومبيا». وقد اعتاد أن يحشر صورته مع صور أشخاصه الماثلين في أعماله الذين تلتقي عيونهم بعيون المشاهد في معظم الأحيان. على مدى ستين عاماً، أنجز بوتيرو أعمالاً متنوّعة من الرسوم والمنحوتات التي تتميز بحرفية عالية لناحية ضربات الريشة الرشيقة على المسطحات اللونية، كما في تماثيله الملساء ذات المواضيع المتنوّعة (الأجساد البشرية والحيوانية والأشكال التي تمثّل الطبيعة الصامتة من فواكه وخضار وأدوات الاستخدام اليومي، بما تحمل في حركاتها الرشيقة من رموز ودلالات وألوان صافية زاهية وتضخيم واستدارات في الأشكال).

«حياة الليل» (زيت على كانفاس ـــ 81 × 65 سنتم ــــ 2017)

في كنف عائلة فقيرة، ولد بوتيرو في مدينة ميديلين في كولومبيا يوم 19 نيسان (أبريل) عام 1932. تأثّر، طفلاً، بالرسوم والنقوش والتماثيل القديمة، وكان مولعاً بمصارعة الثيران، وانتسب إلى مدرسة خاصة تلقّن هذه الرياضة الشعبية التي رسم لقطات مؤثرة منها وراح يبيع رسومه للجمهور. معركة الثيران باتت موضوعاً متكرراً في أعماله الأولى. برز بوتيرو كرسّام في عام 1948. بعد عامين، سافر بمنحة دراسية إلى مدريد حيث درس الفنّ في «أكاديمية سان فرناندو»، ومارس تدريبات خاصة على نسخ أعمال الفنانين دييغو فيلاسكيز وفرانسيسكو غويا في «متحف ديل برادو». ثمّ سافر إلى باريس وتجوّل بين متاحفها بعين الفنان الباحث عن التفاصيل، ومنها انتقل إلى فلورنسا للدراسة والتدريب على صناعة السيراميك لمدة عامين. أجرى زيارةً طويلةً للمكسيك بين عامَي 1956 و1957، تركت تأثيراً واضحاً في أعماله اللاحقة، فهناك درس فنّ الجداريات وأنجز منها أعمالاً عملاقة باتت الأكثر شهرة في العالم.
في عام 1969، أقام أول معرض له في «متحف الفن الحديث» في نيويورك ومن هناك توالت معارضه في أهم مراكز الفنون حول العالم وتجاوزت سبعين معرضاً.
في التسعينيات، اختبر بوتيرو رسم النسب والأحجام، وبدأ بتطوير أسلوب جديد من خلال رسم بشر وحيوانات دائرية ومنتفخة بعد انتقاله إلى لوس أنجليس منذ عام 1960. الأحجام المنتفخة لرسومه تضمّنت العائلة الرئاسية عام 1967 وسخريةً سياسيةً، إذ صوّر تلك العائلة بألوان حيادية وساطعة وأشكال محددة وبارزة، في إيماءة إلى فن الفولك الأميركي اللاتيني. ورغم أنّ عمله تضمن العناصر والمناظر الطبيعيّة، إلا أنّ بوتيرو ركّز على التصوير الظرفيّ والرمزي.
بعدما أصبح جمهوره عالمياً، انتقل بوتيرو إلى باريس في عام 1973 حيث بدأ ينجز منحوتاته التي تعتبر امتداداً للوحاته. استمرّ في التركيز على الأشكال المنتفخة، وتطوّرت منحوتاته في مطلع التسعينيات وعرض أشكاله البرونزيّة الضخمة حول العالم، فشهدت نجاحاً كبيراً.
في عام 2004 توجّه بوتيرو علناً نحو السياسة، فأنجز سلسلةً من اللوحات والرسوم التي تدور حول عنف عصابات المخدرات في كولومبيا. اكتسب الكثير من اهتمامه بالفنون القديمة وبخصائص النحت الفرعوني والإغريقي واستوحى منها المبالغة في تكبير الأحجام التي انعكست قبله في رسوم كبار الفنانين الكلاسيكيين في أوروبا كما في لوحة بييرو ديلا فرانشيسكا التي تحمل عنوان «لقاء سليمان وملكة سبأ». كما هي واضحة في اللوحة التي رسمها بوتيرو عن «الموناليزا» عام 1979، وعن الفنان روبنز وزوجته عام 1965، فهو يلتقي مع روبنز في ذائقة تفضيل رسم الأجساد الممتلئة. ذائقة كانت شائعة في القرن التاسع عشر وقبله، لكن بوتيرو وضع نفسه في موقف تحدٍّ للذائقة التي درجت في القرن العشرين، وتميل إلى رسم الأجساد النحيفة التي تصل في مبالغاتها إلى مجرد إكساء العظم جلداً. ومن هنا فإن بوتيرو يبني جسوراً للتواصل بين الحداثة والجذور الفنيّة البعيدة.

منحوتة لبوتيرو في الشانزليزيه عام 1992 (غيتي)

في عام 1956، شكّلت لوحة «الطبيعة الصامتة» عن المندولين نقطة تحول كبيرة في مسيرة بوتيرو المهنية. من خلال تغيير حجم الفجوة المركزية لتلك الآلة الموسيقية، اكتشف بوتيرو أسلوبه الخاص وشاء أن يلعب بنسب الحجم وتحريفه، ليس فقط في ما يتعلق برسم الإنسان، بل انطبق أيضاً على أسلوبه في تصوير الطبيعة الصامتة.
استوحى بوتيرو أشكالاً جديدة في أعماله من صور الحياة في أميركا اللاتينية، وخصوصاً في بلده كولومبيا، مُدخلاً عناصر من الفن الشعبي الموروث، ومن العلم الكولومبي بألوانه الثلاثة، ومن الألبسة التقليدية والأشجار والثمار الكولومبية.
ورغم أن بوتيرو تعايش مع مراحل متجدّدة من أساليب الفن الحديث، بما فيها التجريدية والسوريالية، فإنه ظلّ محافظاً على رسم الأشخاص في تشكيل يوحي بالواقعية السحرية التي تحمل لمسات تجريدية وسوريالية طفيفة، ونكهة ساخرة لاذعة، ونقداً سياسياً (استهدف بوتيرو في نقده اللاذع رموز السلطات السياسية والعسكرية والدينية في أميركا اللاتينية) في لوحات شبه كاريكاتورية، ونقد ذاتي يظهر في صورته الشخصية التي تتكرر في حالات متنوّعة، مثل غيرها، غنيةً باللحم والدم.
في مطلع عام 2004، عرض بوتيرو خمسين لوحة في المتحف الوطني الكولومبي تتناول كل أشكال العنف في بلاده. وفي عام 2005، فوجئت الأوساط الفنية بالمعرض الإشكالي الذي حوى خمسين لوحة أخرى تحت عنوان «أبو غريب» صوّر فيها عدداً من أشد مناظر التعذيب رعباً وقسوةً، أي تعذيب السجناء العراقيين إبان الاحتلال الأميركي للعراق مطلع القرن الحالي.
اكتسب الكثير من اهتمامه بالفنون القديمة وبخصائص النحت الفرعوني والإغريقي واستوحى منها المبالغة في الأحجام

أنجز هذه اللوحات بأسلوبه الكاريكاتوري المتأرجح بين الرعب والتقزز، وأدهش العالم بالطريقة التي عبّر بها عن تلك المأساة التي انتشرت أخبارها وصور فظاعاتها حول العالم، بكونها ممثلة أعلى درجات الانحطاط ومستويات انتهاك الكرامة الإنسانية من قبل جنود ومجندات أميركيين من حرّاس السجن، وهم يضحكون ويسخرون من مسجونيهم وقد عرّوا معظمهم من ملابسهم البالية، ثم صوروا ذلك كله وهم فخورون به. نعرف أن بوتيرو مزج دوماً في إبداعاته بين الكاريكاتور الساخر والواقعية التي تنطوي على نقد اجتماعي بالغ القسوة. انطلق في تحقيق تلك اللوحات من الصور الفوتوغرافية نفسها التي التقطها أولئك الجنود واستتبع انتشارها في العالم فضيحةً بات بعضهم يعتبرها أم الفضائح الأميركية. جسّد بوتيرو في لوحاته هذه أشد أساليب التعذيب والاستغلال التي حصلت في هذا السجن العراقي الرهيب، الذي أنشئ عام 1944 قرب بغداد، واكتسب سمعةً سيئةً على مدى ستة عقود، حتى قيل إن الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود. كانت عمليات التعذيب والإعدام تُمارَس فيه بأساليب وحشية مبتكرة من دون محاكمات تذكر. حملت رسومه عنوان «لا تستح من الحقيقة»، وقد نشرها صحافي أميركي في صحيفة «نيويوركر»، فهزت الرأي العام الأميركي.
جالت معرض لوحات «أبو غريب» بين إيطاليا واليونان وألمانيا، ونيويورك وكاليفورنيا، وصرّح بوتيرو بأنه لن يبيع هذه اللوحات، بل سيقدمها هدية إلى متاحف متفرقة، كي تبقى ذاكرة حية للأجيال القادمة، إلى جانب أعماله النحتية الكبيرة التي تنتصب في ساحات عامة في مدن وعواصم عديدة، ومن أشهرها تمثالا «الرأس» و«المحارب الروماني».
من أطرف لوحات بوتيرو تلك التي أعاد فيها رسم الموناليزا برؤيته الطريفة والخاصة، إذ جعلها في الثانية عشرة من العمر، طفلةً ذات وجه مستدير، ممتلئ، وعينين واسعتين وملامح ناعمة.
بات هذا الفنان الكبير الراحل والأسطوري مدرسةً قائمةً بذاتها، إذ استطاع أن يؤثر أسلوبه الفريد بفنانين كثر وبمصمّمي أثاث منزلي وإنارة. أصبح اسمه مرتبطاً بأسلوبه المكتنز والتضخيميّ.