بعد هدوء نسبي في نشرات الأخبار خلال الشهر المنصرم، عادت القنوات المهيمنة في الأيّام الماضية وتخندقت، منصّبةً نفسها مقدّمة خدمات علاقات عامّة. في «عاصمة الإعلام العربي»، لا معايير مهنية أو أخلاقية. فهي عاصمة بلد يرزح تحت أزمات شتّى، قنواته تعاني من شحّ التمويل، وتبحث بذلك عن أيّ «مصدر رزق» إن كان «بالحلال أو بالحرام». هي قنوات كانت أساساً تُنعت بأنّها «دكاكين» حتّى قبل أن يطلّ شبح الأزمة، فكيف بعد الانهيار والوصول إلى الدرك الأسفل؟لم يكن الاحتفال الذي نظّمته السفارة السعودية في بيروت في مناسبة العيد الوطني السعودي، يوم السبت الماضي، استثناءً، رغم أنّه كان الأكثر نفوراً. الاحتفال الذي أقيم في وسط بيروت، شارك فيه «كوكتيل» من السياسيّين والإعلاميّين والناشطين وغيرهم. وإذا كان بين هؤلاء شخصيّات وأحزاب من «8 آذار» أدّوا فروض الطاعة، فما المُتوقّع من قنوات لطالما سوّقت لدول خليجية واعتبرت أنظمتها مثالاً يُحتذى يجب على لبنان استنساخه؟ هكذا، طغت عند القنوات الثلاث المهيمنة لهجة تسويقية على نقل تلفزيوني مباشر من المفترض أن يكون موضوعيّاً وديناميكيّاً. حتّى otv أبت أن تنهي مقدّمتها من دون إعلام مشاهديها عن تلبية «رئيس التيار الوطني الحر دعوة السفير السعودي وليد بخاري لحضور احتفال الاستقبال في اليوم الوطني السعودي الذي أقامته السفارة في وسط بيروت». علماً أنّ «تلفزيون لبنان» بدوره نقل وقائع الاحتفال مباشرةً.

(محمد نهاد علم الدين)

وخصّصت «الجديد» مساء السبت مقدّمة نشرت أخبارها كاملةً لخبر الاحتفال، مستعينةً بجمل وتعابير شعرية حول السعودية ولبنان والعلاقات بينهما وعبارات التضخيم والتعظيم، متفوّقةً على شقيقاتها. وبعض ممّا ورد في المقدّمة يكفي لإعطاء فكرة عنها بأكملها، إذ بدأت بأنّ المملكة «غرست نخلها وأخضرها في قلب بيروت ووسطها واندلع لونها من أدراج الرومان وآثارها في وسط العاصمة، ملقياً برسائل مضيئة على السراي الحكومي الكبير». وحاولت القناة تسويق المملكة كجامعة للبنانيّين والإيحاء بأنّ مفتاح محو اختلافاتهم ليس عندهم بل بيَدها فقط، فأكملت: «اختارت السفارة السعودية مقرّاً يمنح العيد رمزية هامّة تؤكّد أنّ المملكة معكم وفي قلبكم وأنّها قادرة على الجمع والوحدة ومدّ خيوط التواصل بين الجسور اللبنانية المتهدّمة». وكعادتها، لم تنسَ القناة توجيه الرسائل السياسية ضدّ فريق معيّن تستهوي إقحامه على قاعدة «ما في غير طنسة بالجيش»، فقالت: «بعض الحضور في وسط بيروت أشاد بما تحقّق في المملكة لكنّه يحجب عن هذه القفزات في بلاده، فيعرقل ويمعن في الرفض ويشترط ويحتجز البلاد رهينة ثم يطلب تدخّلاً دوليّاً وعربيّاً». بهذا، ضربت القناة عصفورَين بحجر، فشغّلت أسطوانتها المشروخة وفي الوقت نفسه غسلت وجهها من خزي المقدّمة عبر ادّعاء عدم استساغتها التدخّل الخارجي، قبل أن تنهي باقتباس بعض ما قاله السفير.
لم تكتفِ «الجديد» بكلّ هذا، ولا بالتقارير المخصّصة للحدث، بل قرّرت تلميع صورة المنظّمين، رغم أنّه ليس واضحاً مَن بالتحديد طلب منها ذلك، أو مَن الذي يكترث حتّى. فراحت تنشر شريطاً من محيط السراي الحكومي حيث أقيم الاحتفال في نشرات أخبارها وعلى صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، لتُظهر النظافة و«الترتيب» في اليوم التالي من إقامة الحدث، في ما بدا وكأنّه ردّ على انتشار مقاطع قبل فترة أظهرت النظافة بعد انتهاء أحد الاحتفالات التي نظّمها «حزب الله». وانهالت بذلك الردود الساخرة على محاولات «الجديد» اليائسة التي ربّما تخجل منها حتّى السفارة السعودية نفسها، رغم أنّ التعليقات لم تخلُ من حسابات وهمية تثني على الأمر.
الطامة الكبرى كانت في تحوّل «الجديد» في اليوم نفسه (الأحد) إلى منصّة لمعسكر سياسي محلّي إقليمي دولي واحد، فيما خرجت إلى الضوء أخيراً أخبار توقيع القناة عقوداً إنتاجية مع قنوات عربية وخليجية وتجديدها لشراكتها مع «دويتشه فيله» الألمانية الداعمة لكيان العدوّ («الأخبار 25/9/2023). وتوضح التحوّل الطارئ عبر الوجوه التي استضافتها «الجديد» طوال اليوم، بدءاً بالصحافي سيمون أبو فاضل والوزيرة السابقة مي شدياق صباحاً، ثمّ المتحدّث الإقليمي باسم الخارجية الأميركية سامويل ويبربيرغ خلال نشرة الأخبار المسائية، ثمّ السفير السعودي السابق لدى لبنان علي عوّاض عسيري والصحافيّين جان عزيز وتمّام نور الدين وراغدة درغام (والأخيران أميركيّا الهوى) خلال برنامج «وهلّق شو» الذي يقدّمه جورج صليبي مساءً. واستفاض كلّ من هؤلاء في إبراز «خبرته» حول الملفّ اللبناني والأزمة الرئاسية.
أيضاً وأيضاً، افتتحت القناة تقاريرها مساء اليوم نفسه بتقرير كان هدفه الأوحد الدفاع عن رئيس مجلس إدارة «طيران الشرق الأوسط»، محمّد الحوت، في قضية تلزيم شركة «نيفادا» المملوكة لوسام عاشور لتدير مطاعم المطار بعد تقديمها سعراً أعلى بأضعاف، ما شكّل صدمة للحوت بعدما توقّع تجديد عقد شركة LBACC المملوكة لـ«ميدل إيست» تلقائيّاً، كما كان يحصل طوال 15 عاماً («الأخبار» 8/9/2023). هكذا، أتت حجّة عاشور «في وقتها» بما أنّ الأخير «جسمه لبّيس»، لتبرير تلميع صورة الحوت ونقل وجهة نظره، وفي الوقت نفسه ادّعاء الموضوعية والتنكّر بزيّ فضح الفساد. تحت عنوان «محمّد وسام عاشور يضع الحجر الأساس لامبراطوريته في مطار بيروت الدولي»، استفاض التقرير في «شرح» ما حصل من وجهة نظر منحازة، معتبراً أنّ السعر الأعلى الذي قدّمته «نيفادا» مشبوه، لكنّه لم يجد ما يثير الشبهة في احتكار LBACC المسيطرة على المطار لأعوام من دون أرباح تُذكر لخزينة الدولة. ونعتَ التقرير عاشور بأنّه «صديق السياسيّين»، مقحماً ملفّ الفساد في «إيدن باي» المملوك له من دون أيّ صلة لذلك بالمطار، فيما لم ينعت الحوت بأيّ عبارة مماثلة، وكأنّ الأخير كان «ثائراً» ضدّ السياسيّين خلال العقود الماضية! وفي السياق نفسه، استضافت القناة النائب إبراهيم منيمنة الذي لم يقدّم أيّ معلومات مفيدة، تماماً كما التقرير الذي خلا من الإثباتات، مكتفياً بصيت عاشور والفساد في «إيدن باي» وبـ«استبدال مساحات وديبوهات بمقاهٍ تدرّ ربحاً» وبأنّ «فنجان القهوة قفز من دولارَين إلى أربعة»! في المقابل، فإنّ ارتكابات LBACC واضحة ومتعدّدة ومقنعة. لا حاجة إذاً للسؤال حول مصلحة «الجديد» من بثّ هكذا تقرير، ولكم التعليق!
خصّصت «الجديد» مساء السبت مقدّمة نشرة أخبارها كاملةً لخبر الاحتفال


بعيداً من «النفايات» التي ترميها «الجديد» في وجوه مشاهديها، كانت mtv تتفاخر بما قاله البطريرك الماروني بشارة الراعي عنها خلال جولته في أستراليا حول أنّه «لا أتابع إلّا mtv من بين المحطّات التلفزيونية ونتشارك معها الكثير من المبادئ، وأهمّها الحرّية». وعدا المنشورات على السوشال ميديا، خصّت القناة البطريرك في مقدّمتها مساء السبت بكلمة شكر، فقالت إنّ «جديد الزيارة اليوم، التكريم الذي خصّ به الراعي ومطران أبرشية أستراليا الـmtv ممثَّلة برئيس مجلس إدارتها الأستاذ ميشال المرّ. فشكراً من القلب للتكريم البطريركي اللافت المعبّر، وللكلمة المؤثرّة النابعة من القلب التي ألقاها غبطته في المناسبة. مع التأكيد له وللبنانيين جميعاً، أنّه وكما أنّ بكركي تحمل صليب القضية اللبنانية منذ مئات السنين، فإنّ الـmtv على هذه الدرب تسير، وذلك لتبقى الحرّية، وليبقى لبنان».
هذا اختصار للمشهد الإعلامي خلال يومَين في «عاصمة الإعلام العربي». هل يختلف لبنانيّان على أنّه لا وجود في هذا البلد لقناة تلفزيونية واحدة يُعوّل عليها؟ فبدلاً من أن يكون «تلفزيون لبنان» يجمع اللبنانيّين بعيداً من «الجمعات» السفاراتيّة، يتمّ تدمير دوره بشكل ممنهج لصالح «دكاكين» علاقات عامّة تتخندق كلّ واحدة في الكانتون المرسوم لها، ولا تكتفي بدورها المرسوم، بل تزايد على مشغّليها بخدمات «بونوس».