«كثيراً ما كنت أشعر أن الحياة تكرّر نفسها من دون إرادة منّا. أتخيّل الله يهبنا الفرصة لإعادة اكتشاف أنفسنا، والتخلّص من خطايانا، لنصبح أكثر نقاء وقُرباً منه. لكنّ ذلك لا يأتي من دون الاعتراف بهذه الخطايا التي ستتكرّر بدورها إن بقينا مختبئين وراء الممنوع بلا سبب والحرام في غير حُرمة! ربما يشاركنا الآخرون في الخطايا نفسها. لكنّ دورنا ليس إصلاح ثقوب الكرة الأرضية، بل إصلاح ثقوبنا نحن وليُصلح الآخرون ثقوبهم. هي محاولة للعلاج إذاً، لكني لن أكون الطبيب هنا، بل لعلّني المريض أكثر مني الطبيب. وكلّي ثقة أنّ المريض هو أفضل طبيب لدائه. كلنا اليوم يختلس شيئاً من الآخَر: قبلة، نظرة، أو ابتسامة رغبة. وبالنسبة إليّ أنا، فقد اختلستُ روايتي من كلّ ذلك، وأيضاً من قصص امتزج فيها الواقع بالخيال فأصبحَت واقعاً محضاً، فمن قال إن تصف الواقع المحض ليس خيالاً محضاً؟». لعلّ هذه الأسطر التي صدّر بها الروائي السعودي الراحل هاني نقشبندي (1963ــــــ 2023) عمله الأبرز «اختلاس» (دار الساقي ــــــ 2007) تلخّص الخطوط الكبرى في المشروع الروائي للكاتب المتنور الذي بدأ مسيرته في الصحافة والإعلام منذ عام 1984، بعدما تنقّل في أكثر من صحيفة سعودية وترأس تحرير مجلات «سيدتي» و«المجلة» باللغة العربية في لندن. قدم أيضاً البرنامج التلفزيوني «حوار مع هاني» على شاشة تلفزيون «دبي» وكان أحد وجود قناة «المشهد» التي انطلقت في عام 2022 في دبي.
بدأ مسيرته في الصحافة والإعلام منذ عام 1984

من الواقع المحض، من الشارع المستغرق في متاهات ثوراته، أخذنا نقشبندي في «نصف مواطن محترم» (الساقي 2012) إلى تلك المنطقة الوسطى بين الخيال والحقيقة، ليطرح سؤال الحرية في سياق حكائي ممتع: على وقع هتافات الشعب الثائر، يصحبنا السرد في رحلة مع موظف بسيط وزوجته إلى المستشفى لإجراء عملية مستعجلة، فيكتشف أن البلاد كلّها في حالة حداد عام على أحد أقارب الزعيم، ويخبره الأطبّاء أنّ موعد العملية قد أُجّل لمدّة أسبوع. يفقد أعصابه ويصرخ «لا»، الكلمة المحرّمة في البلاد بأمر من الزعيم نفسه. يمضي الرجل وقته في السجن بتهمة التحريض على الثورة، لينهي الراوي عمله بكوميديا سوداء: يقترح «محفل الوطن»، حيث تُصنع القرارات، الاستعانة بالرجل ذاته لتهدئة الانتفاضة، فينصّب عضواً في المحفل نفسه، ويُعلن بطلاً سيُخرج البلاد من الأزمة.
في «اختلاس» الرواية التي منعت في أكثر من بلد عربي وترجمت إلى الروسية، قارب نقشبندي الكثير من القضايا المحرّمة في المجتمع السعودي المحافظ كالعلاقة بين الجنسين، والتطرف الديني والصراع بين القديم والجديد، من خلال رواية مبنية على ما يصل بطلَها (صحافي سعودي يعيش في لندن ويدير مجلة نسائية) من بريد القرّاء، ولا سيما من امرأة جعلت من هذا الصندوق بمثابة كرسي اعتراف ومساحة للبوح تكشف من دون استفزاز أو ضوضاء الكثير من خبايا هذا المجتمع. تجربة لا شكّ استلهمها نقشبندي من عمله الصحافي: «كانت تصلني يومياً أكثر من مئة رسالة عبر البريد الإلكتروني على مدى ست سنوات، ما يعني أن الآلاف من الرسائل حملت الكثير من المعاناة التي تلاقيها المرأة في المجتمع على مدار الفترة، ومن هنا نبعت فكرة «اختلاس» التي تقوم على مجموعة من الحقائق».
أمراض المدينة الحديثة وبحث الإنسان فيها عن المعنى، ثيمة برزت في «ليلة واحدة في دبي» (الساقي ـــــ 2013). هنا أجاد نقشبندي وصف مدينة الأبراج العالية وناطحات السحاب التي تحجب النور في المدن الجامحة: «منذ البارحة فقط، نبتت عمارة بجوار نافذتها ترتفع إلى السماء. في ليلة واحدة، أصبحت مئة طابق وما زالت تشقّ طريقها للأعلى. لقد حجبت العمارة ضوء الشمس عن حجرة نومها. أحسّت بالخوف وأخذت تسأل أين أنا، ثمّ ما لبث أن ضاع اسمها، نسيته فراحت تبحث عمن يعرفها كي يذكّرها به من دون أن توحي أنها نسيته». إنها أمراض المدن الكبيرة، وضآلة الإنسان فيها وغربته الوجودية حيث يميل الغرباء بعضهم إلى بعض في البوح والمواساة وتقاسم الوحدة: «ورغم نجاحها في العمل، بقيت رهينة الحيرة والوحدة والضياع في مدينة جامحة، إلى أن فتحَت قلبها وحكت كل شيء للحارس الهندي». ربما تكون رواية هاني نقشبندي الثانية «سلّام» (الساقي ــــ 2008) هي الأكثر إشكالية من بين أعماله كلها، حين طرحت قضية غزو الأندلس عبر الحبكة التي يريد فيها أمير سعودي استنساخ «قصر الحمراء» في غرناطة بكل أبّهته في موطنه الرياض.
عالجت رواياته تابوهات مجتمعه وأمراض المدن الكبيرة وغربة الإنسان الوجودية

إلا أنه يلتقي بشيخ مغربي يخبره أن المعمار الذي شيّد القصر لا يزال حيّاً يرزق في طنجة، ثم يقلب أفكاره رأساً على عقب ويقنعه بأنّ إعادة بناء «الحمراء» ليست سوى إعادة لتجديد الصراع مع الآخر، لتنجح الرواية في عملية الإسقاط بين ما مثلته الأندلس وما يمثّله الصراع اليوم بين ثقافات تتواجه على الساحة العالمية. هل يمكن لحضارة أو أمة أن تبني مجدها على أنقاض شعب آخَر؟ قوة «سلّام» تكمن في زعزعتها للدرس القومي المدرسي حول الأندلس وأدبيات الفجيعة من خلال هذا السؤال التاريخي المشروع، ومحاولتها وضع الأمور في نصابها، والقول إنّ لعنة تاريخنا الملطّخ بالدم تلاحقنا حتى اليوم. الرواية الأقرب إلى الشعر في أعمال نقشبندي هي «طبطاب الجنة» وهو اسم لحلوى شعبية من السكّر المحروق. في هذا العمل، عالج نقشبندي جدلية الحب والموت التي رافقت الإنسان منذ بداية تكوينه: عند القبر رقم 215 في مقبرة تقول الأسطورة إنّها تضم رفات أمنا حواء، يحبك نقشبندي قصة البطل الذي يلازم فيه قبر حبيبته، ويرسم خطة ليلتقي الحبيبان في صورة أقرب لبيت قيس الشهير: «وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما يظنّان كلّ الظن أن لا تلاقيا» في لغة مطعّمة بكل شغف الحب: «وهكذا راح يعدّ القبور ويحسب الأيام يعرف اليوم الذي سيُفتح فيه قبر سلمى. لكنه بحاجة إلى من يساعده على تنفيذ خطّته بدقّة لكي يموت في نفس اليوم الذي سيفتح فيه القبر». اختلس الموت هاني نقشبندي أو أخذه إلى الضفة الأخرى حيث يمكنه العثور على إجابة السؤال الصعب في بداية الرواية ذاتها: «ألا يهزّ الله مملكته فيتحرّك ذاك الجاثم على القبر؟».