عاد الزمن في المناطق الحدودية إلى ما قبل عام 2000. قرى الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة شبه خالية من سكانها، حتى المقيمون منهم من غير المصطافين نزحوا نحو مناطق أكثر أمناً بسبب الاعتداءات اليومية للعدو الإسرائيلي منذ عملية «طوفان الأقصى»، وما يلحق العدوان من ردود للمقاومة. فما إن يحلّ الظلام حتى يعود الخوف من القنص والقصف الذي كان مسيطراً قبل التحرير، وتخلو 25 كيلومتراً من الطرقات الممتدة من بوابة فاطمة في بلدة كفركلا المحاذية للحدود الفلسطينية، وصولاً إلى مارون الرأس من أيّ حركة.«ثلثا السكان تركوا بيوتهم ورحلوا صوب المناطق الأكثر أمناً»، بحسب أحد «الصامدين»، كما وصف نفسه، في قرية مركبا. في أكثر من 7 قرى حدودية، كلّ المحالّ التجارية مقفلة حتى محطات الوقود ومحالّ بيع الخضر والأغذية، فـ«المورّدون توقفوا عن إرسال البضائع إلى القرى المواجهة»، قال صاحب محل في قرية العديسة. غير أن الشوارع الخالية لا تعني خلوّ القرى من سكانها تماماً، فهناك دائماً من اختاروا البقاء. منهم من أكّد عدم رغبته في المغادرة حتى لو أخذت الحرب أشكالاً أخرى، وآخرون وصفوا بقاءهم بـ«الاضطراري» بسبب الوضع المادي وعدم وجود مكان للجوء إليه، بالنسبة إليهم «الفقير ينتظر التطورات لوضع الخطة، والغني استأجر في مكان بعيد وغادر».
تغيّر شكل الحياة في الأسبوعين الماضيين في القرى الجنوبية الحدودية، ومن بقي لا يغادر منزله إلا لضرورة قصوى، ولا سيّما خلال ساعات ما بعد الظهر، إذ «إنّ الهبج (القصف) ببلش بعد الخامسة مساءً». موعد قصف العدو لأطراف القرى، والاشتباك مع المقاومين تتوقف معه الحياة، ويبدأ «عد صواريخ المقاومة والدعاء لها بالتسديد»، قالت الحاجة أم محمد التي رفضت مغادرة بيتها في بليدا.
في حولا، يصرّ أحد الصامدين على عدم تكرار صورة حرب تموز 2006، «لا مكان للمغادرة» يقول، «المؤونة من طعام وماء في البيوت تكفي للصمود لأشهر»، فيما يشير آخر في القرية نفسها إلى أن «رجال الضيعة لا يزالون فيها بعدما أجلوا النساء والأطفال إما إلى بيروت، أو إلى القرى الأبعد عن الخط الحدودي» خشية الحصار لا القصف. فالقرى لا يمكن الدخول والخروج منها إلا عبر طريق واحد، وأيّ انقطاع سيؤدي إلى نفاد المواد الغذائية الأساسية، ولا سيّما الخبز، إذ لا مخابز كبيرة في منطقة جنوبيّ الليطاني، والخبز يأتي من بيروت أو صيدا وصور، كما أن أقرب مستودع دواء كبير يقع خارج منطقة صيدا.
لم يتمكن العدوّ من إعادة تهجير الجنوبيين والشوارع الخالية لا تعني خلوّ القرى من سكانها


وجهة النزوح الأولى لعدد كبير من الجنوبيين لا تزال ضمن حدود المحافظتين الجنوبيتين، في القرى الأبعد عن خط المواجهة حيث تستمر الحياة بشكل شبه عادي يشوبه الكثير من الحذر والترقب. ومشهد فراغ القرى الحدودية من سكانها لا يشبه أبداً حال المدن الجنوبية الأبعد كصيدا وصور والنبطية التي «نزح نحوها حوالي 1400 عائلة»، وفقاً لإحدى الجمعيات المحلية المهتمة بشؤونهم. حتى القرى البعيدة عن خط الحدود، لا تزال الحياة فيها طبيعية، مع زيادة في عدد السكان بسبب حركة النزوح نحوها.
القادمون من القرى الحدودية يُستقبلون حتى اللحظة في بيوت منطقة النبطية، وفقاً لمدير جمعية محلية، و«لكن في حال اشتداد حركة النزوح، قد نضطر إلى فتح مراكز الإيواء العامة من مدارس ومراكز جمعيات». أما الآتون من قرى بعيدة عن خطوط الاشتباك، فيطلب منهم العودة لعدم وجود خطر عليهم. أما تقديم المساعدات للقادمين، فـ«على عهدة المجتمع المحلي الذي قدّم أفراده تبرعات عينية وصلت إلى حدود تأمين أثاث منزلي كامل للبيوت المستخدمة من النازحين»، فيما «لم تتدخل حتى الآن المنظمات غير الحكومية، بل وقفت متفرجة على الوضع».



التكافل الاجتماعي جنوباً
يشهد الجنوب حركة تكافل اجتماعي بين أبنائه لافتةً للنظر، «الناس لبعضها»، بحسب أحد أبناء مدينة النبطية التي تستقبل أكثر من ألفَي نازح، على أقل تقدير. في إحدى قرى المنطقة، قدّم شاب منزله الزوجي الذي قام بتأثيثه وتجهيزه، ولكن لم ينتقل إليه بعد، لجمعية تهتم بشؤون النازحين. رفض مدير الجمعية أولاً، إلا أنّه عاد وقبل بعد إصرار صاحب المنزل. وفي زفتا، قدّم أحد أبناء المنطقة منزله لأهل أحد الشهداء الذين ارتقوا في المواجهات الأخيرة مع العدو الاسرائيلي في الجنوب، علماً أنّ أهل الشهيد نزحوا إلى المنطقة بسبب اشتداد القصف على بلدتهم.