مع بداية الشهر الثاني من حربها على غزة، يبدو كأنّ إسرائيل استطاعت تحقيق ما يمكن وصْفه بملامح تحوّل في رضى جمهورها إزاء أداء جيشها، ليس ربطاً بأهداف الحرب التي لا يزال اللايقين يكتنفها، وبقوّة، بل اتّصالاً بالعدد المرتفع من الضحايا على المقلب الفلسطيني، فضلاً عن الدمار والتهجير الكبيرَين اللّذَين حلّا بالقطاع وأهله. وظَهر شعور الرضى جليّاً في تماهي الإعلام العبري مع الرواية الرسمية، كما تَرِد على لسان الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، والرضوخ الكامل للرقيب العسكري وإملاءاته، ما نمّى التركيز على «الإنجازات» المضخّمة، من دون تتبّع الحقائق، فضلاً عن تبنّي «روايات» وهمية في أحيان كثيرة، مِن مِثل تلك المتعلّقة بخسائر الجيش في الميدان، وإهمال «الفشل» الذي بات غائباً عن أيّ نقاش أو تعليق.مع ذلك، يظلّ الشعور بالرضى مرهوناً بكيفية انتهاء الحرب، والترتيبات التي ستعقبها في قطاع غزة، أمنيّاً وسياسيّاً، وهما أمران تدرك أهميّتهما تل أبيب وواشنطن، وتعملان على إنجازهما، سواء عبر المفاوضات التي يخوضها الجانب الأميركي، أو عبر السعي إلى تحقيق ما أمكن تحقيقه ميدانيّاً، وبما يتوافق مع المصلحة المشتركة، الأميركية - الإسرائيلية، لليوم الذي يلي، سواء في غزة، أو في المنطقة برمّتها. وفي هذا السياق، تأتي مواصلة الضغط على حركة «حماس» ميدانياً، عبر قتل المدنيين وتدمير المنازل والمنشآت، لجعل الحركة تتراجع، بما يمكّن المفاوض الأميركي من فرض شروطه أو ما أمكن منها على طاولة المفاوضات غير المباشرة مع «حماس»، وهو ما سيعني إزالة حكم الحركة، مع بقاء «حماس» نفسها. ومع ذلك، لا يغيب عن المشهد هدف القضاء على الحركة ماديّاً وفي الميدان، سواء عبر العملية البرية ضدّها، أو من خلال دفعها بسياسة «الأرض المحروقة» إلى الاستسلام، ورفع الراية البيضاء. وإذا كانت نجاعة السبيل الأخير مشكوكاً فيها إلى حدّ كبير، فإن السبيل الأول دونه أثمان كبيرة جداً سيتوجّب على إسرائيل دفْعها، على رغم تردّدها.
وعلى أيّ حال، يَظهر أن تل أبيب، ومن ورائها واشنطن، تراجعتا كثيراً عمّا كانتا تريدان تحقيقه في اليوم الأول للحرب، وإنْ كان مستوى العنجهية المصحوب بالإنكار لا يزال مرتفعاً جداً لدى الجانبين، مع تفاوت بين الراعي الأميركي، الذي يركّز اهتمامه على ترتيبات اليوم الذي يلي الحرب، وبين التابع الإسرائيلي الذي تهمّه النتيجة المباشرة والمادية لهذه الحرب. وفيما لا تزال سقوف الخطاب الإسرائيلي مرتفعة، ادّعى رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، أن جيشه يحقّق «نجاحات كبيرة، ولا ننوي التوقّف ومستمّرون حتى النهاية»، مؤكداً، مرّة أخرى، أنه لن يكون هناك وقف لإطلاق النار، أو إدخال للوقود إلى غزة قبل إطلاق سراح الأسرى، موجّهاً رسالة إلى «المجتمع الدولي» بأن «حربنا هي حربكم، وإنْ لم ننتصر، فأنتم ستكونون الهدف التالي».
غالانت: الضغوط علينا ستزداد وستتطلّب قرارات قيادية صعبة، لكنّنا لن نوقف القتال في الحرب التي فُرضت علينا


من جهته، أصرّ وزير الأمن، يوآف غالانت، على «تحقيق هدفنا وإنجاز المهمّة، وهي تفكيك حماس وقدراتها والوصول إلى قادتها ومقاتليها»، مشيراً أيضاً إلى أن «القضاء على يحيى السنوار هو أحد أهدافنا في هذه الحرب، إضافةً إلى بقيّة قادة حماس». وإذ زعم أن قواته «تحقّق تقدّماً من الشمال والجنوب إلى قلب مدينة غزة، ونحارب داخل المناطق السكنية»، فهو تحدّث عن أن «الضغوط علينا ستزداد وستتطلّب قرارات قيادية صعبة، لكنّنا لن نوقف القتال في الحرب التي فُرضت علينا».
وعلى رغم هذه الثقة المدّعاة، يمكن القول إن شعور الرضى لدى الجمهور الإسرائيلي مؤقت. وكي لا ينخدع أحد بالصورة الآتية من إسرائيل، فممّا يجدر التنبيه إليه أن هذه هي طبيعة الحروب اللاتناظرية واللاتماثلية، بين الجيشَين الأميركي والإسرائيلي، صاحبَي القدرة المادية الهائلة والسيطرة العسكرية والتسلّط الاستخباري والمقدّرات غير المنقطعة، من جهة، وبين تنظيم مقاوم، لا تناسب في مقوّماته وقدرته المادية، إلّا في ما يتعلّق منها بالحافز والاستعداد للتضحية والصمود، والمرتفعَين بما لا يقاس مع أيّ ممّا لدى الإسرائيلي أو الأميركي. وفي خلال حروب كهذه، لاتناظرية، يمكن أن يصاحب جمهور الجهة الأقوى مادياً وعسكرياً، الشعور بالرضى طوال مدة الحرب وحتى يومها الأخير، لكن الشعور الحقيقي هو ما يولّده الشكل الذي تنتهي به الحرب، والمتعلّق بشرط تحقّق الانتصار اللاحق. أما جمهور التنظيمات المقاومة، فيرافقه القلق والخشية حتى اللحظة الأخيرة، ربطاً بالنتيجة التي يُنتظر أن تتحقّق في نهاية المطاف، لينقلب لاحقاً إلى شعور بالانتصار لمجرّد منْع العدو من تحقيق سقوفه المرتفعة التي نادى بها منذ اليوم الأول، بعدما أعمت الخسارة بصيرته وتقديراته.
وهنا، يمكن طرح السؤال الآتي: إلى أين وصلت إسرائيل، بمعيّة أميركا، في هذه المرحلة من الحرب؟ الجواب متعدّد الأوجه، ويختلف بحسب الزاوية التي يَنظر منها المراقب. إلّا أن أهمّ ما في المشهد أن الحرب عالقة بين حالتَي مراوحة يغذّي بعضهما بعضاً: مراوحة عسكرية ميدانية، من جانب إسرائيل، إذ إنها لم تنجز ما يجب عليها لتمكين الأميركيين من فرْض إرادتها عبر ترتيبات سياسية وأمنية لمرحلة ما بعد الحرب، فيما يعاني الجانب الأميركي أيضاً من قلّة الخيارات المتاحة أمامه إزاء هذه الترتيبات، ليس لأن إسرائيل متعثّرة ميدانياً فحسب، بل لتعذّر استيلاد هذه الترتيبات سياسياً أيضاً، وإنْ بدأت ملامح بعضها في الظهور على شكل «أفكار كبيرة» عبّر عنها وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، بقوله: «نتطلّع لتسليم حكم غزة إلى تحالف يضمّ أميركا وأوروبا ودولاً إسلامية، أو قادة محلّيين في القطاع». وفي الاتجاه نفسه، تحدّث منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، عن «(أنّنا) نبحث مستقبل الحكم في غزة بعد حماس، ولن نقبل العودة إلى ما كان الوضع عليه قبل الحرب»، لأنه «لا يمكن حماس أن تكون جزءاً من المستقبل في غزة»، وأن «المشاورات جارية في شأن شكل الحكم هناك». وإذ جدّد كيربي التأكيد أن بلاده تدعم إسرائيل بالكامل، لكنه شدّد، في المقابل، على أن «ذلك لا يعني بالضرورة أن نتّفق مع المسؤولين الإسرائيليين على إعادة احتلال غزة»، مشيراً إلى أن إدارة جو بايدن تواصل «العمل مع الإسرائيليين لتحقيق وقف إطلاق نار لأسباب إنسانية».