لم يتطلّب الأمر أكثر من دقائق لتعطيل الجدار الإسمنتي - التكنولوجي لما يسمّى غلاف غزّة، قبل أن يندفع مقاتلو حماس عبره لتنفيذ عملية «طوفان الأقصى». و«الجدار» اسم مجازي يُطلق على بنية تكنولوجية ضخمة كلّفت أكثر من مليار دولار للحؤول دون أيّ عمليات تسلّل تنطلق من غزّة نحو المستوطنات الإسرائيلية خلفه. وهو كان، إلى ما قبل «الطوفان»، أحد أهم إنجازات جيش الاحتلال. «حارس حدود» لا يتطلّب وجود عدد كبير من العناصر البشرية، وفعالية أكبر بأضعاف من كتائب من الجنود. كاميرات المراقبة المزروعة فيه لا تنام ولا تتعب ولا يُلهيها شيء عن مهمتها. وإذا ما تعطّلت لسببٍ ما، يدعمها نظام استشعار وأبراج اتصالات ورادارات وقبّة حديدية ومدافع رشاشة تعمل من بعد. الجدار «الذكي»، فخر الصناعة العسكرية الإسرائيلية، تبيّن أنه لم يكن «ذكياً» كفاية. بضع طلقات من بنادق رشاشة كانت كافية لتعطيله تمهيداً لطوفان أغرق ما يسمى «إسرائيل» في واحدة من أكثر الهزائم إذلالاً منذ إنشائها على أرض فلسطين
مثّل الجدار الذي شيّده العدو على طول الحدود البرية مع قطاع غزّة، مستخدماً أحدث ما توصّلت إليه التكنولوجيا، «درّة تاج» العنصرية الصهيونية. سياج فولاذي فوق الأرض وخرساني مسلّح يتوغّل تحتها. تطلّب بناؤه نحو 140 ألف طن من الحديد والفولاذ الصلب، وعمل فيه نحو 1200 عامل، ونُفّذت خلال إنشائه ما يعادل 330 ألف عملية نقل بواسطة الشاحنات للرمال والصخور. ونُصبت فوقه بنية تكنولوجية الأكثر تطوّراً تتضمن كاميرات رصد ورادارات وأجهزة استشعار لأي حركة وصولاً إلى عمق 30 متراً تحت الأرض، فضلاً عن أبراج مراقبة وغرف تحكّم، وحلقات أمان تكنولوجية وجغرافية كبناء تلال رملية، وعدم السماح إلا للمزارعين المصرّح لهم بالاقتراب من السياج سيراً على الأقدام فقط.


استغرق إنجاز المشروع أكثر من ثلاث سنوات ونصف سنة، بين عامَي 2018 و2021. ووفق الجنرال عيران أوفير، الذي يُشرف على بناء الحواجز الدفاعية في وزارة حرب العدو، «إذا وُضع حديد التسليح الذي استُخدم في بناء الجدار في خطّ واحد سيصل حتى أستراليا». يمتدّ هذا الجدار على طول حدود غزّة من الشمال إلى الجنوب ويصل إلى البحر، بطول 65 كيلومتراً، وارتفاع ستّة أمتار، وبلغت كلفة إنشائه 3.5 مليارات شيكل (1.1 مليار دولار)، وفق الأرقام التي نشرها كيان الاحتلال، علماً أنّ حجم التجهيز يُشير إلى كلفة أكبر.
تُدار هذه البنية الخرسانية والتكنولوجيّة المتطورة عبر غرفة عمليات مدموجة بإدارة برامج «ذكاء اصطناعي» تستقبل الداتا وتحلّلها، وبناءً على نتائجها تصدر أوامر تشغيل سريعة لآلات القتل. ووفق وزير الحرب السابق بيني غانتس، فإنّ «هذا الحاجز، وهو مشروع تكنولوجي إبداعي يُعدّ الأول من نوعه، يحرم حماس من إحدى القدرات التي حاولت تطويرها ويضع جداراً من الحديد وأجهزة الاستشعار والخرسانة بينها وبين سكان الجنوب». فيما اعتبر الرئيس السابق لأركان الجيش أفيف كوخافي أنّ «الحاجز يغيّر الواقع. ما حدث في الماضي لن يحدث مرة أخرى».

التفوّق التكنولوجي
في مؤتمر في تلّ أبيب عام 2016، قال سار كورش، الرئيس التنفيذي لشركة «ماغال» للنظم الأمنية، الشريكة الأساسية في بناء الجدارين الفاصلين مع غزة والضفة الغربية، بفخر، إنّ «لدينا أرقى التقنيات وأكثرها ثباتاً في المعركة»، وهي تشمل أجهزة استشعار من الألياف الضوئية، وأنظمة فيديو للتعرّف إلى الوجه، وجهازاً متنقّلاً لمراقبة الحدود يمكنه التحرّك على طول الجزء العلوي من السياج ما يحلّ محلّ دوريات المركبات المأهولة، وكاميرات وأنظمة رادارية حرارية. وأضاف في مقابلة مع «تايمز أوف إسرائيل» في عام 2018: «لم يتم بناء هذا السياج لإيقاف أعمال الشغب. لقد صُمّم لإعطاء إشارة في الوقت الفوري والفعلي إذا ما حاول شخص عبور الحدود».


وفي غياب معلومات خاصة حول الإدارة الأمنية للجدار، يقدم موقع «ماغال» أمثلة على أحدث منتجات النظم المتطوّرة كـ «Forti X» الذي يعمل وفق تقنيةC5i (command, control, communication, computer, cyber and intelligence) المطوّرة (القيادة، السيطرة، الاتصالات، الحاسوب، السايبر، والاستخبارات). وهي تُعدّ العقل الذي يجمع المعلومات الواردة من الأجهزة المزروعة في موقع ما، لاستخدامها في إدارة المهام اليومية وعمليات الطوارئ بواسطة أدوات تحكّم مباشرة. قد لا تكون هذه التقنية هي نفسها المستعملة في جدار غزة، لكنها على الأرجح مماثلة أو أكثر تطوّراً في إطار جمع البيانات وتحليلها. كذلك تكفّلت «ماغال» بتزويد الجدار بتقنيات التعقّب فوق الأرض، فيما زوّدته شركة السلاح الإسرائيلية «إلبيت» بتقنيات التعقّب والرصد في باطن الأرض. وبسبب فعالية هذا النظام ونجاحه في اكتشاف عدد من الأنفاق وتدميرها، نالت الشركة من وزارة الحرب في كيان الاحتلال إذناً بتصدير هذه التكنولوجيا السريّة إلى الولايات المتحدة لاستعمالها على الحدود الأميركية - المكسيكية، وإلى دول أخرى مثل كوريا الجنوبية لاستعمالها على الحدود مع كوريا الشمالية. كذلك أسهمت شركة «رافائيل» لأنظمة الدفاع المتقدمة في صناعة نظام الاستشعار الخاص بالأنفاق، وفازت «إلبيت» و«رافائيل» بـ«جائزة الدفاع الإسرائيلي» التي تُمنح سنوياً للمشاريع التي تؤدي إلى «تحسين أمن الدولة».
هكذا تمّت تغطية البرّ وجزء من الحدّ البحري، فيما لُزّمت حماية الأجواء إلى «القبة الحديدية» التي طوّرتها «رافائيل» بمساعدة شركات أخرى، بعد عدوان تموز 2006. وُضعت القبّة في الخدمة، للمرّة الأولى، عام 2011، وهي نوعان، متحرّكة وثابتة، وتصل فعاليتها إلى 90%، وفق ما يزعم جيش العدو، وباتت عامل أمان أساسياً للمستوطنين. وللقبّة نظام رادار منفصل عن منصّة إطلاق الصواريخ الاعتراضية، وهو مصمّم لرصد مسار الصواريخ قبل أن يحدّد نظام القيادة والتحكّم نقطة الاصطدام بعد تحليل بيانات الصواريخ المهاجِمة، تمهيداً لتفعيل منصّة الدفاع الجوي وإطلاق صواريخ اعتراضية. ويمكن لنظام القبة تأمين تغطية جوية فوق أجواء مدينة كاملة ضدّ الصواريخ التي يُراوح مداها بين 4 كيلومترات و 70 كيلومتراً، علماً أنّ كل بطارية من هذا النظام تحوي ما بين ثلاث وأربع منصات إطلاق، ويمكن لكلّ منصة أن تحمل ما يصل إلى 20 صاروخاً اعتراضياً.

العبور
وفق تحقيق نُشر في «نيويورك تايمز» (29 تشرين الأول 2023)، وصلت إلى مدير «الشاباك» رونين بار، نحو الثالثة فجر السابع من تشرين الأول الماضي، معلومات عن الاشتباه بحركة مريبة لمقاومي حركة «حماس» في غزّة، لكنه خلُص إلى أنّ الأمر ليس أكثر من مناورة عسكرية اعتيادية. والخلاصة نفسها توصّل إليها مسؤولو الاستخبارات العسكرية والأمن القومي، استناداً إلى تقديرهم القوي أنّ «حماس» ليست في وارد الدخول في حرب، ولم يجدوا ما يبرر إبلاغ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بهذه التحركات. مع اقتراب الصباح، ارتأى رونين بار أنّ «حماس» ربما تحضّر لهجوم على نطاق ضيّق، وقرّر بالتنسيق مع كبار الجنرالات إرسال فرقة «تيكيلا» - وهي وحدة سرية من النخبة تابعة لـ«الشاباك» - للانتشار على الحدود الجنوبية».
ضربات محدّدة وذكية عطّلت أكبر شبكة تقنية متطوّرة لمنع العبور من القطاع إلى المستوطنات


لم تمضِ ساعات قليلة حتى تكشّفت المفاجأة ووقع ما لم يتخيّله عقل: أكثر نظم التكنولوجيا في العالم سقطت سريعاً. كان الفشل الأكبر لحق بشركة «ماغال» عبر إخفاق تكنولوجيّتها في اكتشاف واعتراض الطائرات المسيّرة الانتحارية «زواري» التي صُنعت بأيدي غزّيين (وليس في شركة لوكهيد مارتن الأميركية) وانفجرت بأبراج المراقبة والبنية التحتية للاتصالات والرادارات ودمّرت المدافع الرشاشة التي تعمل من بُعد. وقد حقّق هذا الهجوم بالمسيّرات ثلاثة أهداف:
- حال دون وصول إشارات التنبيه المتعلّقة بحصول خروقات للجدار إلى غرفة القيادة.
- فرض العتمة على غرفة القيادة بعدما أصابها بالعمى وفصلها عن مجريات الأمور على الأرض.
- تدمير المدافع الرشاشة التي تعمل من بعد.
استُغلّت نقاط الضعف في هذه البنية التكنولوجية لخلق فجوة زمنية استغلها المقاومون لإنجاح عملية الاختراق وخفض كلفتها، ورفع حظوظ نجاح العملية بكاملها. تعطّل «الذكاء الاصطناعي» الذي يدير هذا النظام عبر ضرب موقع أساسي منع النظام من استقبال الداتا وتحليلها أو حتى من القيام بمبادرات بشرية. وبمجرّد تعطل النظام، انطلق مقاومو «حماس» على دراجات نارية لزرع عبوات ناسفة أحدثت فتحات في البنية الخرسانية للعبور.

«طوفان الأقصى» أغرق عمالقة التخطيط والتصميم والخبراء الإستراتيجيين في كيان العدو وكبريات شركاته


ولم تكد الدراجات النارية تعبر من الفتحات المستحدثة في الجدار، حتى اقتربت جرافات لتوسيع الفجوات ما مكّن المركبات الأكبر حجماً من العبور. كما تمكّنت الفرق البحرية لـ«كتائب القسام» من اجتياز الجدار البحري. ووفق المعلومات، اختُرق السياج في 29 نقطة. وإلى جانب البر والبحر، وقع اختراق لم يكن في حسبان «عمالقة التكنولوجيا» وخبراء الأمن في الكيان، وهو الاختراق الجوي. فقد أطلقت «حماس» نحو 5000 صاروخ، فيما كان مقاوموها «يطيرون» على متن طائرات شراعية محلية الصنع. بهذا الهجوم فشلت أيضاً «القبّة الحديدية» في تحديد الطائرات الشراعية بوصفها هدفاً لإسقاطه، لا بل أدى تشوّش هذا النظام إلى الفشل في اعتراض الكثير من الصواريخ التي سقطت في مستوطنات وصولاً إلى تل أبيب. هكذا يكون فشل «ماغال» مساوياً لفشل «رافائيل». نقطة الضعف كانت بسيطة للغاية: هزيمة القبة، ببساطة، يكون عبر إرباكها بعدد كبير من الصواريخ، ومع هذه الصواريخ يطير المقاومون فيخيّل للرادار أنهم طيور ليس أكثر. بعد 7 تشرين الأول، سقط أيضاً منتج «رافائيل» مجدداً في جنوب لبنان حين أصبحت رادارات القبة ترى في كل طائر هدفاً خطراً. وعندما خرجت أفواج من طيور البجع نحو سماء الجليل، فعّلت القبة عملها لاعتراضها...وأنفق العدو نحو 75 ألف دولار على كل طير.
سقوط «جدار غزة العظيم» حدث بهذه البساطة. ومعه سقط عمالقة التخطيط والتصميم، من خبراء إستراتيجيين وأمنيين في كيان العدو وكبريات شركاته، بمجرّد عبور عناصر «القسام» وإجهازهم على «فرقة غزة» في الثكنات ومقرّات القيادة، فيما كان الجنود الإسرائيليون نياماً في أسرّتهم. أكثر من 1.1 مليار دولار أُنفقت على وهم تَرَكَ انطباعاً لدى قيادة العدو وجنودها بأن غزّة تحت السيطرة.



فشل عالمي للصناعة العسكرية الإسرائيلية
بعد عدوان 2006 على لبنان، خسرت شركات الصناعات العسكرية الإسرائيلية العملاقة صفقات كثيرة لبيع كميات كبيرة من الجيل الرابع من دبابات ميركافا، بعدما تعرّضت للتهشيم على أيدي رجال المقاومة في لبنان. فتك الـ«كورنيت» الروسي بـ«الأسطورة» الإسرائيلية، فكانت الحرب ترويجاً للصناعات الروسية مقابل الصناعات الإسرائيلية والغربية. واليوم، تُطيح عملية «طوفان الأقصى» برهانات كبريات شركات التكنولوجيا الإسرائيلية التي كانت قد تحوّلت إلى مصدّر رئيسي إلى الدول الأوروبية، ناهيك عن دول أفريقية وآسيوية. والتحدي الكبير في الحرب الجارية اليوم، هو اختبار مدى فعالية أنظمة الدفاع الجوي وقدرتها على منع وصول الصواريخ إلى عمق المناطق في كيان الاحتلال. جمع أجزاء الصورة الكاملة لهذه الخسائر، يقود إلى الخلاصة الأهم لـ«طوفان الأقصى» كمسمار جديد دُقَّ عميقاً في نعش الجيش الذي لا يُقهر!


العين على حدود المكسيك!
انخفضت أسهم شركة «إلبيت» 6.7% في الأسواق المالية الأميركية، بين 6 تشرين الماضي و6 تشرين الثاني الجاري، ما يسمح بالتقدير أن المستثمرين استنتجوا أنّ الشركة ستتعرض للمساءلة بعد الحرب، بعدما تبيّن فشل منتجاتها من التكنولوجيا العسكرية. ومثل هذه المساءلة تعرّض العقود الخاصة للشركة إلى مخاطر الإلغاء أو الفسخ. علماً أن «إلبيت» وغيرها من الشركات التي أسهمت في بناء الجدار الأمني كانت تطمح للتوسع في الأسواق العالمية، ومن بينها الولايات المتحدة. فقد عرضت شركة «ماغال» خدماتها للعمل في الجدار الذي اقترح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إقامته على الحدود مع المكسيك. وأعلن الرئيس التنفيذي للشركة سار كورش في مؤتمر في تل أبيب، في 2016، أنه «إذا بنى السيد ترامب سياجاً أو جداراً، فإنّنا نعتقد أن تقنيّتنا ستكون مفيدة بالتأكيد».