(من موقع المنظمة)
إلى مدينة غرنيكا في قلب إقليم الباسك الإسباني، تدفّق الإسبانيون في 8 كانون الأول (ديسمبر)، وملؤوا الشوارع، حاملين العلم الفلسطيني، مشكّلين فسيفساء بشرية كتمثيل حيّ للعلم الفلسطيني. رُفعت في التظاهرة لوحة الفنان الشهير بابلو بيكاسو «غرنيكا»، تيمّناً بالقرية التي شهدت أول قصف جوي في التاريخ لسكّان مدنيين. يومها، في 27 نيسان (إبريل) 1936، قصفت القوات الجوية النازية القرية، دعماً للجنرال فرانسيسكو فرانكو، في مهمة تدريبية، هدفت إلى اختبار تكتيك قصف جديد لترهيب وإرهاب المقاومة. ولأكثر من ثلاث ساعات، أُسقطت على القرية خمس وعشرون قذيفة، تحتوي على 100 ألف رطل من القنابل المتفجرة والحارقة، ما حوّلها إلى أنقاض. وقصفت عشرون طائرة مقاتلةً أخرى، قتلت مدنيين عزّلاً كانوا يحاولون الفرار. كان الدمار مروعاً، إذ اشتعلت النيران لمدة ثلاثة أيام، ودُمّر 70 في المئة من المدينة. وقُتل وأصيب حوالى 1600 مدني، كانوا يشكلون ثلث سكان القرية.
بعدما وصلت أخبار هذه الفظائع إلى باريس عام 1937، كانت جدارية «غرنيكا» لبيكاسو كاستجابته البصرية، ونصب تذكاري للمذبحة الوحشية. عُرضت أمام ملايين الزوار في معرض باريس العالمي. ومن يومها باتت لائحة اتهام ضد الحرب في القرن العشرين.
وضع نسيج يصوّر لوحة «غرنيكا» على مدخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في مقرها في نيويورك على مدى أكثر من 36 عاماً. وأزيلت اللوحة عام 2021، ومعها أزيل التجسيد الفني للمجازر. في التظاهرة الأخيرة في «غرنيكا»، قالت بطلة مسلسل «لا كاسا دي بابل» إيتزيار إيتونو «من غرنيكا إلى فلسطين... من غرنيكا إلى العالم، نريد أن نقول إنه بعد الذي مررنا به، منذ القصف الأول الذي تعرضنا له وحتى اليوم، لا يمكن للتاريخ أو العالم أن يتحمّل دمار شعب واحد، لا ينبغي للعالم والتاريخ أن يتحملا ما يحدث في فلسطين، ولا يجب على العالم والتاريخ أن يقبلا غرنيكا جديدة». وأضافت: «سيحمل المواطنون الفلسطينيون أصواتنا من غرنيكا أينما كانوا، قتلانا قتلاكم... بيوتكم المدمرة بيوتنا، أرضكم المحتلة هي أرضنا المحتلة، وبناتكم وأبناؤكم هم أبناؤنا».
نتابع المجزرة في قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، نرى صغاراً يبحثون عن لعبهم، يحتضنون قطتهم، فتيات يتشبّثن بفساتينهن، وصبياناً يفرحون لغياب صوت الطيران أثناء الهدنة. ولمعرفة عدد الشهداء، نعود إلى محرّكات البحث. مهما كانت فكرة أنّ الشهداء ليسوا أرقاماً، يحول هذا الحجم من الدم الأفراد إلى أرقام، في الحديث اليومي ونشرات الأخبار. رفض تحويل الشهداء إلى أرقام يضعنا أمام إشكالية تقابلها آلة القتل الإسرائيلية. من مبادرة «شهداء غزة»، وفيديو الزميل أحمد فاخوري الذي يطلب سرد قصص الشهداء، إلى عمل منظمة «تصوّر فلسطين»، مبادرات عدة تهدف إلى توثيق قصص الشهداء، وتكرار أسمائهم، منعاً لنسيانهم وطمس حقيقة أنّه كانت هناك حياة وأحلام.
للوهلة الأولى، يطوف أمامنا أشخاص على لوحةٍ بيضاء، بدمائهم، من دون هوية، منتشرين بشكلٍ عشوائي. تجمّع بشري يمكن إيجاده في أي مدينة، أفراده واقفون، وجالسون، وأطفال لم يتعلّموا المشي بعد. في محاولة لمعرفة من هم، قامت مبادرة «تصور فلسطين» بتجسيد الشهداء الفلسطينيين في قطاع غزة، إذ يظهر على الشاشة أسماء كل الشهداء، وأعمارهم وجنسهم، وفقاً لبيانات وزارة الصحة الفلسطينية (عيّنة عشوائية):
قيس عبد الكريم عيد الزهراني: 37 عاماً
آلاء أحمد نمر السلم: 30 عاماً
ندى ثابت ربحي الحداد: 4 أعوام
باسل ثائر إياد جنديه: 14 عاماً
داليا عزات أحمد أبو ركبه: 26 عاماً
حنيفه محمود جميل الحداد: 29 عاماً
عبد الفتاح يوسف عبد الفتاح أبو مذكور: 26 عاماً
أسامة محمد أديب اسليم: رضيع
سناء صبحي إبراهيم الرفاتي: 57 عاماً
حسام محمود حسن مبارك: 41 عاماً
عبد الرحمن محمد فهمي النجار: 13 عاماً
محمد سليمان نعمان حبوش: 16 عاماً
ابتسام سلامه علي عواجه: 61 عاماً
ليان ناصر شحده أبو الفحم: 8 أعوام
محمد ماجد محمد أبو عوده: 15 عاماً
محمد خالد محمد اعروق: 31 عاماً
مازن محمد عودة عابد: 48 عاماً
جمال إبراهيم عطيه النباهين: 7 أعوام
توقف العدّ على موقع المنظمة في 26 تشرين الأول (أكتوبر)، وكان عدد الشهداء قد وصل يومها إلى 6747. وحتى لحظة كتابة هذه السطور، بات عدد الشهداء أكثر من 17 ألفاً، من نساء ورجال وأطفال وشيوخ. لم يوفّر الاحتلال أحداً. هم 17 ألف شهيد، و17 ألف اسم، وقصة، وحلم، وحب، وصداقة، ووجع وفرح. لا نعرف منهم إلا من سمعنا عنهم من أصدقاء ورفاق وزملاء.
تحلم منظمة «تصوّر فلسطين» بمستقبل حرّ للفلسطينيين في عالم خالٍ من القمع، وإقناع الجمهور بأحقية القضية ومنع فصلها عن حركات التحرّر الأخرى. وتعمل على رفع الوعي حول الصهيونية والأيديولوجية السياسية لإسرائيل، كأيديولوجية استعمارية استيطانية تضطهد الفلسطينيين.
تأسست المنظمة عام 2012، وتقوم على استخدام البيانات والأبحاث لإيصال التجارب الفلسطينية بصرياً وإحداث تغيير في السردية. يتشارك القائمون على المنظمة إيماناً بأنّ «البيانات والتواصل الإبداعي لهما دور في حركة حقوق الإنسان الفلسطيني، وخصوصاً في تسليط الضوء على الأسباب الجذرية للظلم». ويؤمنون بأنّ الرواية السائدة تعمل على حجب وتبرير وإدامة هياكل السلطة القمعية في المجتمع. وعليه، يكرّسون جهودهم لخلق سردية تعمل على تغيير ديناميكيات السلطة، لنشر الرواية الفلسطينية بوضوح، كجزء من الروايات الأوسع المناهضة للاستعمار والعنصرية.
في كل حرب وصراع تولد روايات وقصص تتجاوز ما تفرضه الدول، وسابقاً كان الخيال يأخذ حيّزاً من هذه القصص. أما اليوم، فقد باتت البيانات أداةً أساسية في خلق سردية مقابل سردية. وإن كان هدف السرديات التلاعب والتمثيل بأحداث مترابطة، يجسد ما يحدث في غزة، سرعة بناء الروايات وتعديلها وحتى هدمها كل يوم. وتساعد وسائل التواصل الاجتماعي في هذه العملية، عبر تحويل كل قصة إلى سلسلة من الروايات. وعدم مجابهة السردية الإسرائيلية يعطي شرعية لتصرفاتها، وعليه تصبح السردية بحد ذاتها محركاً لأفعال الآخرين وما ينتج عنها من عواقب، كطعن رجل أميركي طفلاً فلسطينيّاً 26 طعنة في ولاية ألينوي الأميركيّة.
اعتمدت منظمة «تصوّر فلسطين» نهج «الموجة السردية»، الذي يعمل على بناء الزخم لتحريك أهداف سردية محددة. وإلى اليوم، نشرت 200 مخطط معلومات بياني وأربع منصات تعليمية، وهي: «تصوّر فلسطين 101»، و«رحلات فلسطينية»، و«الجدول الزمني لنمو حركة»، و«خرائط فلسطين المفتوحة». أسهمت هذه الأعمال في تغيير السرديّات على مر السنين، وحصدت جوائز دولية لتصميم المعلومات والوسائط الرقمية. ونالت دعماً من مجموعات أخرى مثل حركة المقاطعة ومجموعات حقوق الإنسان. باتت المنظمة تحظى بمصداقية كمصدر للمعلومات حول جذور الظلم في فلسطين، وعملت مع الآلاف من الناشطين والطلاب والأكاديميين في أكثر من 106 جامعات في أكثر من 50 بلداً.
لم يبق أمامنا سوى الرواية، كعنصر أساسي في الحرب لإظهار هوية الشهداء. لا نعلم من استشهد في غزة، ومَن بقي معنا، مَن نقلت قصصهم لنا، مثل عائلة الزميل محمد الدحدوح، ومَن نعوا أقاربهم، نشروا صورهم وقصصهم وذكرياتهم معهم. بقي معنا الزملاء الذين نعوا أنفسهم قبل استشهادهم، ولحظات وثقت استشهاد مصوّرين. هنا بقوا أشخاصاً، بقيت قصصهم بعد استشهادهم ولو بالاسم. وإن كان لزامناً سرد قصص أكثر من 17 ألف شهيد، فهو أساسي وضروري، لمواجهة كل محاولات الاحتلال تجريد الفلسطينيين من إنسانيّتهم، واعتبارهم أرقاماً يمكن محوها من دون أيّ رادع.