لم تغب إفريقيا عن الترتيبات الأمنية الأميركية الجديدة في البحر الأحمر؛ إذ ضمّت قائمة الدول المساهمة في قوّة «حارس الازدهار»، سيشل الواقعة في قلب المحيط الهندي، وسط تلميحات إلى وجود «دول قبلت المشاركة في العملية سرّاً»، من دون تحديد هويّتها، وإنْ كان متوقّعاً أن تشمل عدداً من الدول الإفريقية مثل جيبوتي - التي تنخرط منذ سنوات في ترتيبات الأمن البحري الدولية في المنطقة -، بما يتعارض مع اهتمامات دول إفريقية أخرى، من مثل مصر التي تُعدّ من أكثر الدول المتضرّرة من اضطراب حركة التجارة في الممرّ البحري المؤدّي إلى «قناة السويس». وعلى رغم أن تفاصيل الإعلان الأميركي لم تأتِ على ذكر مهامّ القوّة، باستثناء قيام بعض دولها بعمليات دورية لمراقبة باب المندب، وتكثيف أخرى عمليات جمع المعلومات وتحليلها، فإن «حارس الازهار» لا تمثّل اختراقاً جدّياً في بنية الأمن في البحر الأحمر، والذي تمتلك فيه واشنطن اليد الطولى «رسميّاً»، ولا سيما بعد تآكل نشاط ما عرف في السنوات السابقة بـ«مجلس الدول العربية والإفريقية المشاطئة» للبحر الأحمر، بفعل تهميش الرياض الكامل لدور القاهرة فيه.
الأزمة في جنوب البحر الأحمر: جنوب إفريقيا الرابح الأكبر؟
تمدَّدت تداعيات الاضطراب الحالي في جنوب البحر الأحمر، مع إعلان عدد من كبرى الشركات الدولية، وأبرزها «بريتش بتروليوم»، وقف حركتها التجارية فيه (18 الجاري). وتُعدّ هذه الخطوة مؤثّرة إفريقيّاً، إذ تنشط الشركة (إلى جانب وجودها في إقليم شمال إفريقيا وأنغولا وبعض دول غرب إفريقيا) في موزمبيق ومدغشقر وجنوب إفريقيا، والتي ترتبط جميعها بخطوط الملاحة البحرية في البحر الأحمر. كذلك، بادرت شركة «كوسكو» (COSCO) الصينية العملاقة إلى وقف عملياتها في البحر الأحمر (17 كانون الأول)، لافتةً إلى أن تحويل مسار سفنها إلى طريق «رأس الرجاء الصالح»، سيكبّدها ما بين 6 - 14 يوماً إضافياً لكونها ستقطع مسافات إضافية تقدّر بنحو تسعة آلاف كيلومتر. كما حلّ اسم الناقل البحري العملاق، «ميرسك»، في قائمة الشركات التي غيّرت مسار سفنها إلى الطريق نفسه.
وفي ضوء ذلك، بدأت جنوب إفريقيا العمل على توسعة قدراتها التخزينية في عدد من موانئها، ورفع كفاءتها إلى مستويات قياسية، بحسب تقارير اقتصادية (19 الجاري)، توقّعت ارتفاع أعباء صناعة الحاويات والتخزين إلى 2% من الطلب العالمي على مرافق التخزين بشكل عام. كما بدأت السلطات الجنوب إفريقية رفع مستويات الاستعداد بين طواقم العمل في الموانئ، ولا سيما جهات الفحص والمراقبة والجمارك.
وبغضّ النظر عن الأفق الزمني للأزمة الراهنة، فإن التجارب السابقة تعزّز فرضيات استفادة الاقتصاد الجنوب إفريقي (على الأقل في قطاع النقل واللوجستيات) بشكل كبير منها، وتعزّز مكانة بريتوريا في التكتّلات الاقتصادية الكبيرة وصلاتها بالصين، وحتى بعدد من دول الخليج، وخصوصاً تلك التي ضخّت بالفعل استثمارات هائلة في قطاعات الطاقة والبنية التحتية والنقل الجنوب إفريقية.
فيما تترقّب مصر الآثار السلبية للأزمة على «قناة السويس»، فإنّ إثيوبيا تتطلّع إلى الاستفادة القصوى منها


الصين على الخط؟
قدّرت مراكز آسيوية ارتفاع كلفة نقل السيارات الصينية إلى السوق الأوروبية والشمال إفريقية (حال استمرار الاضطرابات الحالية في البحر الأحمر) بنسبة لا تقلّ عن 20%، فضلاً عن ارتفاع أعباء التأمين وإجراءات الأمن. وهكذا، تبدو الصين وصادراتها من أبرز المتضرّرين من الأزمة الحالية، من دون أن يدفعها ذلك إلى الآن إلى الانخراط في «الجهود الأميركية»، التي تستهدف الاستفادة من مقدّرات بكين العسكرية واللوجستية في قاعدتها الكبيرة في جيبوتي، من أجل مواجهة التصعيد اليمني. من جهتها، تطمح إثيوبيا إلى الاستفادة من الأزمة، من بوابة التعويل على تقارب صيني - أميركي في ملفّ صيانة أمن البحر الأحمر، في ضوء صلاتها البالغة القوة اقتصادياً وسياسياً مع أديس أبابا، وعمق ارتباطاتها الأمنية والعسكرية مع واشنطن. وتتّسق هذه الملاحظة مع ما أعلنه رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد (مطلع الشهر الفائت على هامش قمة «إيغاد»)، من رغبة بلاده في امتلاك منفذ بحري على البحر الأحمر.

الصومال والأزمة: تضامن «شعبي» مع غزة
ظلّ التأييد الشعبي الصومالي للقضية الفلسطينية لافتاً للغاية، في ظلّ إجماع نادر حتى على الصعيد العربي. ولم يقتصر هذا التأييد على المواطنين فحسب، بل شمل مجموعات «جهادية» من مثل حركة «الشباب» التي دعت إلى «الوحدة مع حماس»، ما أثار مخاوف أوروبية وأميركية. لكن الصومال، الذي تلقّى اقتصاده منتصف الشهر الجاري دفعة قوية بإعفائه من ديون تبلغ 4.5 مليارات دولار من قِبَل «البنك الدولي»، ويتوقّع معها التزام حكومته بتوجّهات سياسية واقتصادية تتّسق في مجملها مع توجّهات شركائه، انخرط في الأزمة في غزة، هذه المرّة من باب التصعيد الأمني في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن. وفيما استهدفت أنشطة الولايات المتحدة وعدد من حلفائها هناك، في العقدَين الفائتَين على الأقلّ، مواجهة القراصنة قبالة السواحل الصومالية الممتدّة (يملك الصومال أطول سواحل لدولة إفريقية منفردة في القارة)، إلّا أن هذه الأنشطة المستمرّة ارتبطت بانتهاكات «منهجية» لسيادة الصومال في مياهه الإقليمية (فضلاً عن حرمانه من استغلال موارده في مناطق متنازع عليها مع كينيا، حليفة واشنطن، وبوابتها الأثيرة إلى القارة أو شرقها). ويلاحَظ أن دخول الصوماليين على الخط، جاء بالتزامن مع قرار واشنطن تشكيل قوّة «حارس الازدهار»؛ إذ جدّد القراصنة عملياتهم في 18 الجاري، وهاجموا السفينة «MV Ruen» التي تحمل العلم المالطي قبالة سواحل إقليم بونتلاند، قبل توجيهها نحو السواحل اليمنية. وأرجعت تقارير صحافية (مثل «تلغراف» 18 الجاري) الحادث إلى «تنسيق بين الحوثيين والقراصنة الصوماليين» في خضم الأزمة الحالية.
وإذ فتحت التطوّرات الباب على توقعات بتصاعد عمليات هؤلاء الأخيرين، فقد كشفت تحركات شركات أمن إسبانية وبريطانية على وجه السرعة لمتابعة مسار السفينة المختطفة، عن تخوّف من تحقق ذلك السيناريو بعد توقّف هجمات القراصنة فترة ممتدّة نسبياً (منذ عام 2017). كما توقّعت مصادر داخل صناعة النقل البحري العالمية انتشار الهجمات «الصومالية» (من «جماعات أخرى لم تسمّها) على سفن النقل (حتى الكبيرة منها)، وسط تنامي التأييد الشعبي داخل الصومال (واليمن) للفلسطينيين في مواجهتهم للعدوان الإسرائيلي. أيضاً، لاحظت هذه التقارير أن ضعف السلطات في إقليم بونتلاند (الذي يشهد اضطرابات سياسية راهناً) يفسح «المجال بشكل واضح لعمليات القراصنة والعصابات البحرية».