ليس مُدهشاً أن يخرج أحد كبار المحللين السياسيين الإسرائيليين بدعوة إلى وقف الحرب، بالتزامن مع دخولها الشهر الرابع. إذ إن هذه الحرب لم تحقّق أيّاً من أهدافها التي وُصفت بـ«غير الواقعيّة»، فيما لا تزال بعيدة عن «القضاء على حماس»، ولم تقترب حتى من «تفكيك» القدرات العسكريّة للحركة، فضلاً عن أن الجيش الإسرائيلي لم ينجح إلى الآن في استرداد أسير واحدٍ على قيد الحياة. وإذ لم يكن ناحوم برنياع، المحلل السياسي لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، الوحيد الذي خرج بتلك الدعوة، إلّا أنّ الجديد الذي انطلق منه كلامه، إلى جانب الاعتراف بالفشل في تحقيق الأهداف، الاعتراف أيضاً بعدم القدرة على تحمّل الخسائر خصوصاً في صفوف الجيش. إذ كتب: «لماذا بعد ثلاثة أشهر من تلقي أخبار الموت التي تتساقط على رؤوسنا يومياً، على طريقة التعذيب الصينية، كل ما يمكنهم (المسؤولون في حكومة الحرب) أن يتعهّدوا لنا به، هو المزيد والمزيد من الحرب»، في إشارة إلى أن الأثمان المدفوعة لم تفضِ إلى تحقيق ولو صورة نصر واحدة.وأشار برنياع إلى أن يوم أول من أمس (حيث اعترف الجيش بسقوط تسعة جنود وضباط قتلى) «كان يوماً قاسياً على الجيش... الثمن غالٍ جداً». متسائلاً: «إلى أين نحن ذاهبون؟»، معتبراً أن «الإسرائيليين شعب يبحث عن حل. غير أنّ حكومتهم قصة أخرى». ولخّص ما حصل في السابع من أكتوبر بأنه «اليوم الذي سقطت فيه إسرائيل في بئر عميقة»، قائلاً: «لا يوجد مقياس للثمن الذي جباه هذا اليوم وسيجبيه منّا، على المديَيْن القريب والبعيد. فمنذ ذلك اليوم نقف في أسفل البئر ونتساءل: كم قَتلوا؟ ولماذا؟ أين هو العدو؟ وكيف ندمّره حتى آخر فرد فيه؟». ورغم «أهمية هذه الأسئلة، إلّا أنّها تدفعنا إلى تجاهل سؤال أكثر أهمية وهو :كيف نخرج من البئر؟»، وفقاً له. ورأى الكاتب أن معنى الخروج يكمن في «إعادة المختطفين، وإعادة إعمار المستوطنات المُدمّرة وتأهيلها، واستعادة الشعور بالأمن لدى سكان الجنوب والشمال، وتسريح عناصر الاحتياط إلى بيوتهم، ومحاولة إنهاء الحرب»، مستدركاً بأن ذلك «ليس تحدياً سهلاً»، بل «يتطلب ديناميكية، مبادرة، تفكيراً من خارج الصندوق وبالأساس شجاعة... وهي صفات للأسف لا تحملها الحكومة الحالية».
وذكّر برنياع بالنصيحة «المختصرة والفعّالة» لإدارة الأزمات، والتي قدمها وزير الدفاع البريطاني، دينيس هيلي، في ستينيات القرن الماضي، ومفادها بأنه «عندما تكون في بئر (وتريد الخروج)، توقّف عن الحفر»، مشيراً إلى أنه «من المؤسف، أن المسؤولين عن إدارة الحرب في إسرائيل لا يستمعون إلى دينيس هيلي»؛ إذ إنه «منذ ثلاثة أشهر ونحن نسمع عن تدمير حماس. لسوء الحظ، ما سمعناه لا يعكس الواقع. من الناحية العسكرية البحتة، هناك إنجازات باهرة في التنسيق بين السلاح واستخدام القوة، ولكن هناك مسافة كبيرة بينهما وبين القضاء على حماس. لقد خلق رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، توقعات لا توجد طريقة لتحقيقها، وبالتالي حكم علينا بحرب لا نهاية لها». واعتبر أنه «حتى الهدف الأكثر تواضعاً، وهو تفكيك حماس، يتطلب تعديل التوقعات. فأي نفق يتم اكتشافه وتفجيره هو بشارة خير، غير أنّ تفجير نفق لا يدمّر كل القدرات العسكرية والحكومية. كان يكفي تطهير غزة والقطاع على طول الحدود... في الأسابيع الثلاثة الماضية، لم تغير الحرب الواقع. فهي تكلفنا حياة المقاتلين، رافعةً من خطر وقوع كارثة إنسانية ستكون إسرائيل مسؤولة عنها، وهو ما يضرّ بصورتها في العالم، ولا يقربنا من النصر غير الموجود. فحتى لو تم القضاء على يحيى السنوار أو محمد الضيف أو كليهما، فإن نتائج الحرب لن تتغيّر. سيجدون بديلين منهما».
«التحدي الذي تشكله حماس أمام الجيش الإسرائيلي لا يزال كبيراً، بخاصة في الوسط والجنوب»


كما شدد على ضرورة «إعادة التفكير ليس فقط في ما يتعلق بحماس وحزب الله والسلطة الفلسطينية، بل أيضاً بشأن إيران»، لافتاً إلى أن هذه الأخيرة «باتت عدواً متعدد الأذرع وتهديداً وجودياً. إسرائيل تعرف كيف تلدغ الإيرانيين بعمليات سرية، ولكن هذه العمليات لا تبطئ تقدم طهران نحو القنبلة النووية ولا تمنعها من ضربنا عبر وكلائها»، مضيفاً أنه «ربما حان الوقت للاعتراف بالفشل وتجربة سياسة مختلفة». وأشار إلى أن «الشرط الذي وضعه السنوار لإطلاق سراح المختطفين ليس فقط الوقف الكامل للحرب وإطلاق سراح آلاف الإرهابيين من السجون، بل أيضاً استمرار حكمه في قطاع غزة»، معتبراً ذلك «هزيمة لا توصف لإسرائيل. هزيمة متكاملة»، متسائلاً: «هل من الصحيح قبول ذلك؟ ربما». والسبب وفقاً له «أن الفشل له ثمن، وأن موت المختطفين سيكون وصمة عار لا تُمحى، وأننا لسنا مستعدين حالياً لفتح جبهة في الشمال، وأننا نعتمد على أميركا». وعلى خلفية كل ما تقدم، يجب وفقاً له «تأجيل الحساب مع حماس حتى اللحظة التي ينتهك فيها السنوار الاتفاق الذي سيتم التوصل إليه. وعندئذ، نأمل أن يكون الجيش الإسرائيلي جاهزاً».
من جهته، تطرّق المحلل العسكري لصحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، إلى الإعلان عن الانتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب، مشيراً إلى أن «ما لُمّح إليه باللغة العبرية، قيل باللغة الإنكليزية بعلنيّة ووضوح»، في إشارة إلى تصريح وزير الأمن، يوآف غالانت، والمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، دانييل هغاري، إلى صحف أميركية، بأن المرحلة الثالثة قد بدأت فعلياً. ورأى هرئيل أن التصريحات «تنسجم مع الواقع الذي شهدناه على الأرض في الأسابيع الأخيرة: تقليص حجم القوة العسكرية والأنشطة الهجومية في شمال القطاع، وتسريح ألوية من الاحتياط، في مقابل التركيز على الساحتين الرئيسيّتين: مخيمات اللاجئين في الوسط ومنطقة خان يونس»، مستدركاً بأن كلام غالانت وهغاري «لا يبشر بأي حال من الأحوال بانتهاء القتال؛ فقد ذكّرت حماس بذلك عندما أطلقت وابلاً من الصواريخ المتوسطة المدى من منطقة رفح إلى وسط إسرائيل، بعد ثمانية أيام (من آخر رشقة)». وبحسبه، فإن ذلك يؤشر إلى أمرين «اعتماد حماس على الاقتصاد في الذخيرة، ومقدرتها على الاستمرار في مضايقة الجبهة الداخلية والإضرار بها».
ورأى هرئيل أن «التحدي الذي تشكله حماس أمام الجيش الإسرائيلي لا يزال كبيراً، بخاصة في الوسط والجنوب»، معتبراً أنه «لم يتم الحديث بصراحة عن الانتقال إلى المرحلة التالية، بسبب الأزمة السياسية التي تواجهها الحكومة، على إثر التوقّعات غير الواقعيّة من الحرب». وأشار إلى أن «ألوية وكتائب لحماس في شمال قطاع غزة فقدت آلافاً من مقاتليها كما أسر المئات منهم، وأن هذه الأطر التنظيمية لم تعد تعمل؛ إذ استبدلت بها خلايا صغيرة تحاول تعقب قوات الجيش الإسرائيلي، التي تدمّر العديد من الأنفاق وخطوط إنتاج الأسلحة بشكل ممنهج»، مستدركاً بأن كل ما سبق «لا يقرب إسرائيل من الحسم، كما يجعل من الصعب على نتنياهو تسويق الإنجازات للجمهور. وهو كعادته، يحاول التعويض عن ذلك بتصريحات فارغة، مفضلاً أن تكون مدعومة بالتقاط صورة مع الجنود».
ولفت إلى توقيت نشر التصريحات، التي تزامنت مع وصول وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى إسرائيل، حيث «تأمل الولايات المتحدة أن تسرع إسرائيل الانتقال إلى المرحلة التالية، تمهيداً لتحقيق استقرار في الوضع الفوضوي الناشئ في القطاع، وإيصال شحنات المساعدات الإنسانية إلى شمال غزة، وتحقيق اختراق في المفاوضات»، مذكّراً بما كشفه زميله في الصحيفة نفسها، يانيف كوبوفيتش، قبل أيام، من وجود مطلب أميركي بالسماح بعودة النازحين الفلسطينيين إلى شمال غزة، الأمر الذي تعارضه إسرائيل، محتفظة بقوات كبيرة من الفرقة 99 في «الممر» الذي أنشأه الجيش بهدف تقسيم القطاع إلى قسمين. ووفقاً لهرئيل فإنه «في نظر الأميركيين، عودة السكان إلى الشمال ستكون علامة إيجابية. أمّا بالنسبة إلى إسرائيل، فستكون هناك صعوبة معها في تسويق إنجازات الحرب في الداخل؛ إذ سيعود بعض سكان الشمال إلى الأحياء التي دُمّر معظمها، في حين لا تزال المستوطنات فارغة».