مثّلت عملية الاغتيال الأخيرة التي نفّذتها إسرائيل ضدّ "قوة القدس"، وأدّت إلى استشهاد خمسة من ضبّاط هذه الأخيرة، وعلى رأسهم قائد استخباراتها في سوريا، أميد زاده المعروف بـ"الحاج صادق"، ونائبه، ارتقاءً نوعيّاً في المعركة مع القوّة التي يراها العدو المسؤولة المباشرة عن بناء قدرات قوى المقاومة في فلسطين ولبنان وتطويرها. فما جرى تجاوَز في رسائله ونتائجه كل الضربات التي سبق أن وجّهتها إسرائيل ضدّ "قوة القدس" في سوريا، كما شكّل كسراً لأحد الخطوط الحمر التي حافظت عليها طوال الأعوام الماضية، تفادياً لما يمكن أن يترتّب على خرقها من تداعيات خطيرة. وذلك ينسحب أيضاً على موقف واشنطن التي ما كانت لتمنح تل أبيب ضوءاً أخضر لعملية بهذا الحجم، في غير ظروف معركة "طوفان الأقصى".وبمعزل عن آلية اتّخاذ قرار بشنّ عدوان وفق المزايا التي تتّسم بها عملية الاغتيال الأحدث، ودور كلّ من الأجهزة الاستخبارية والعملياتية في عرض التقديرات والخيارات والسيناريوات، إضافةً إلى التوصيات في هذا الاتجاه أو ذاك، ومن ثم اتّخاذ القيادة السياسية القرار الحاسم، فإن المؤكد أن إسرائيل لم تكن لِتبادر إلى خطوة بذلك الحجم، قبل المتغيّر الاستراتيجي المتمثل في "طوفان الأقصى"، والذي شكّل في الأصل الدافع نحو الحرب التي تشنّها ضدّ قطاع غزة، والمعركة التي تشهدها حدود لبنان الجنوبية، فضلاً عن المواجهة المباشرة الدائرة حالياً بين الأسطول الأميركي والقوات اليمنية في البحر الأحمر.
في السياق العام، تُجمع المؤسّسة الإسرائيلية، بكلّ أجنحتها، على أن استراتيجية الجمهورية الإسلامية نجحت في فرض قوس صاروخي مدعوم بجيش من المُسيَّرات موجّه إلى العمق الاستراتيجي الإسرائيلي. وهي وفَّرت قدرات إنتاج وتطوير لدى قوى المقاومة في فلسطين ولبنان والمنطقة، ما أحدث تحوّلاً جذريّاً في معادلات القوّة الإقليمية. ووفق تقديرات إسرائيلية، فقد أخطأت القيادتان السياسية والأمنية في تل أبيب، في استشرافهما مخاطر الدعم الإيراني، وانتقائهما الخيارات التي انتهجتاها إزاءه، كما فشلتا في رهاناتهما عندما غرقتا في حروب ومواجهات استمرّت عقوداً مع قوى المقاومة، وعوّلتا على سيناريوات بديلة لردع الجمهورية الإسلامية، من مثل المفاوضات النووية، والعقوبات الاقتصادية، و(نتيجةً لها) المتغيّرات الداخلية في إيران، وخلق حزام إقليمي يشكّل خط دفاع عن وجود إسرائيل وأمنها.
أما في السياق الخاص، فتدرك إسرائيل أن مَن قرّر وخطّط ونفّذ عملية "طوفان الأقصى"، هو حركة "حماس". لكن وفق تقديرها الاستراتيجي، أيضاً، فإن العملية ليست إلّا تتويجاً لمسار من تطوّر القدرات والخبرات، كان لإيران الدور الرئيسيّ فيه. ولذا، فهي عندما تضفي على كلّ ضربة تتعرّض لها، طابعاً إيرانيّاً - علماً أن ذلك يندرج أيضاً في إطار سياسة إعلامية تهدف إلى تقديم قوى المقاومة كما لو أنها وكلاء في حرب إقليمية -، فإن فعلها هذا نابع من إدراك دقيق للوقائع، وهو ما لا تنكره حتى قيادة "حماس"، وتدلّل عليه إشارة يحيى السنوار إلى أنه: "لولا دعم إيران للمقاومة في فلسطين، لَمَا امتلكنا هذه القدرات، لقد تخلّت عنّا أمّتنا في اللحظات الحرجة والصعبة ودَعَمتنا إيران بالسلاح والعتاد والخبرات".
الاعتداءات الإسرائيلية ضدّ أهداف إيرانية هي جزء من مسار عملياتي بديل تبلور في أعقاب «متغيّر طوفان الأقصى»


من هنا، فإن إدراك إسرائيل لحقيقة أن إيران لا علم لها بقرار "طوفان الأقصى" والتخطيط لها وتوقيتها، لا يلغي دور الأخيرة ومسؤوليتها في هذا المجال. والأمر نفسه ينسحب على تحميل طهران مسؤولية التهديد الذي يمثّله "حزب الله" في لبنان، خاصة أن تل أبيب تنظر إلى أيّ تطوّر في أداء الحزب ضمن مسار تراكمي، وليس كمحطّات معزولة بعضها عن بعض. وذلك هو الفرق الجوهري بين التقويمات التي تكون أسيرة اللحظة ومنطلقة من دوافع غرائزية أو انفعالية، وفهم القيادة الإسرائيلية لمخاطر ما مضى، وتقدير ما يتبلور في الحاضر، واستشراف ما يتّصل منه بالمستقبل، وفق رؤية أوسع وأشمل لِمَا يتّصل بأمنها القومي.
وفق هذه الرؤية، أَدركت إسرائيل، منذ اللحظات الأولى التي تلت "طوفان الأقصى"، أن تصدُّع مرتكزاتها الردعية والعملياتية، التي توفّر لها مساحة من الثقة والأمن على مستقبلها، ستتجاوز تداعياتها الساحتَين الداخلية والفلسطينية. وفي ضوء هذه المتغيّرات، فهي تعمل على إعادة بلورة مبادئ استراتيجيتها العسكرية في التعامل مع التهديدات ومصادرها، وتحاول ترجمة ذلك عمليّاً، وتقديم صورة عن هذا التحوّل بهدف تعزيز صورة ردعها، وتحديداً في مواجهة إيران و"حزب الله".
وعليه، يصبح واضحاً أن الضربات التي وجّهتها إسرائيل إلى الوجود الإيراني في سوريا، هي جزء من استراتيجية ردّها على تهديدات تصاعدية يمثّلها محور المقاومة، لكنها تعني أيضاً، أن إسرائيل، وإنْ نجحت في تسجيل إنجازات تكتيكية مهمّة، إلّا أنها لم تنجح على المستوى الاستراتيجي، حتى الآن، في إحداث تحوُّل جذري في المسار التصاعدي للمحور، والمتّصل جوهرياً بصمود إيران أمام الضغوط التي تعرّضت لها، وتصميمها على التمسّك بخططها العامّة. ولذا، انتقلت إسرائيل إلى سياسة عدوانية تهدف إلى جبي أثمان مؤلمة من الجمهورية الإسلامية، ردّاً على ما تتعرّض له الأولى من ضربات من قوى المقاومة، وأيضاً بهدف تعزيز قدرة ردع تل أبيب إزاء طهران، باعتبار أن الأخيرة من الأطراف الأكثر استفادة من تصدُّع تلك القدرة. وفي هذا السياق، تأتي واقعة الاغتيال الأخيرة كجزء من عملية انتقام هادف ومؤسِّس لخيارات استراتيجية بديلة.
وإذ يرى البعض أنه فات أوان استدراك الفشل في مواجهة استراتيجية محور المقاومة، فقد كان لا بدّ، والحال هذه، من تحوّل عملياتي وبسقوف جديدة، عبر رفع منسوب المغامرة من خلال استهداف ما كانت إسرائيل ترتدع عنه سابقاً. وبحسب "يديعوت أحرونوت" (21/1/2024): "لو أن رجل استخبارات يخدم في منصب مرتبط بالجبهة الشمالية، على مدى السنوات العشر الماضية، قيل له قبل أربعة أشهر إنه في الـ20 من كانون الثاني، سيطلق أحد ما صواريخ لقتل أمير زاده، لكان من المؤكد أن يتمّ إرساله مباشرة إلى علاج نفسي عاجل!... 7 تشرين الأول نقطة تحوّل ضخمة غيَّرت كل شيء".
ومع ذلك، المؤكد أن إسرائيل ليست غافلة عن حقيقة أن تهديد محور المقاومة هو لعمقها الاستراتيجي وعلى "أرضها" أيضاً، في حين أنها لم تنجح في بلورة تهديد مماثل في محيط إيران المباشر. ولذا، فهي تقرّ، وعلى لسان كبار قادتها، ومنذ عقود، بأنه لا يوجد مَن يمكن أن يشكّل تهديداً بهذا المستوى سوى الولايات المتحدة. وإذ يبدو واضحاً أن ثمة تفوّقاً إسرائيلياً عملياتياً في البعد التكتيكي، فإن أعداء إيران (دولاً وخبراء وأجهزة) يقرّون أيضاً بنجاح الأخيرة على المستوى الاستراتيجي، وفي بلورة معادلات قوة وردع وفّرت مظلّة حماية حالت دون استهداف عسكري مباشر لبرنامجها النووي (العمليات الأمنية لها حساباتها المختلفة، خاصة أنه يمكن احتواء نتائجها والحدّ منها)، وفي منع إرساء معادلة ردّ مقابل دعمها لمحور المقاومة، على رغم أنه منذ سنوات طويلة كان هناك مَن يدعو في كيان العدو إلى مثل هذه المعادلة، ويُحذّر من أن الاستراتيجية التي تنتهجها إسرائيل فاشلة.
في الخلاصة، فإن الاعتداءات الإسرائيلية ضدّ أهداف إيرانية، هي جزء من مسار عملياتي بديل تبلور في أعقاب "طوفان الأقصى"، يقوم من ضمن عناصر أخرى، على مراكمة الضغوط على الوجود الإيراني في سوريا، حتى الآن. لكنّ التجربة العملية تؤكد أيضاً أن المفاعيل الردعية والعملياتية لا تتحقّق بالضرورة نتيجة الخطوة العسكرية، وإنّما بمدى انعكاس هذه الأخيرة في وعي الطرف المستهدَف وخطواته، وهو أمر لا يتحقّق إلّا في مسار متواصل وتصاعدي. ولعل ما يُميّز هذا المسار في المرحلة الحالية أنه يتساوق في المضمون والسياق والتوقيت مع الاستراتيجية الأميركية، التي تحتاج بدورها إلى رفع مستوى الضغوط المباشرة على إيران.