ما لم تَظهر مفاجأة بـ»اختفاء» أحد المرشّحَين الرئاسيَّين، جو بايدن ودونالد ترامب، يُرتقب، في غضون أشهر قليلة، أن يتابع العالم فعاليات انتخابات مُكرَّرة، مهما تكن نتيجتها، تدلُّل، أكثر من أيّ وقت مضى، على عمق الإفلاس الذي أصاب الحياة السياسية الأميركية، إذ ثمَّة إشارات متكاثرة ليس معلوماً ما إذا كان الحزبان الوحيدان (الديموقراطي والجمهوري) يلتقطانها، إلى أن القواعد الشعبية إمّا أنها تطّرفت كثيراً إلى الحدّ الذي باتت ترى فيه ترامب منقذها، أو أنها انكفأت، كما بيّنت نتائج التمهيديات في أكثر من ولاية، لأن أحداً لم يَعُد يمثّلها. وفيما لو استمرّت الحال هكذا، من دون انسحاب أحدهما، وصولاً إلى تشرين الثاني المقبل، فإنّ بايدن الذي يدير سياسة خارجية توصَف بأنها «الأسوأ على الإطلاق»، وتترافق مع تخبُّط داخلي حيث تتعاظم الانقسامات، سيسلّم الشعلة مجدّداً لترامب، وكأنّ شيئاً لم يكن.على أن «الثلاثاء الكبير» لم يحمل أيّ مفاجآت تُذكر، وخصوصاً بالنسبة إلى ترامب، الذي يبدو أنه ضَمن ترشيح الحزب الجمهوري لرئاسيات 2024 (يعقد مؤتمره العام في تموز المقبل)، وذلك بعد حصوله على عدد من المندوبين قارب الألف، من بينهم نحو 764 تحصّل عليهم أول من أمس، مقترباً أكثر من العدد المطلوب، وهو 1215 مندوباً، أولاً، وقرار منافسته نيكي هايلي الانسحاب من سباق التمهيديات، ثانياً. وفي إطار فعاليات الاستحقاق الانتخابي في 15 ولاية، حقّق الرئيس السابق فوزاً كبيراً على هايلي في 12 ولاية، أبرزها مين وفرجينيا، إضافة إلى ولايتَي تكساس وكاليفورنيا، حيث حاز نسبة تصويت تخطّت الـ 60%، فيما انحصر «انتصار» منافسته في ولاية فيرمونت، حيث أضيف إلى آخر وحيد كانت قد سجّلته في العاصمة واشنطن.
أمّا جو بايدن، فقد حقّق من جهته فوزاً مماثلاً في الولايتَين المذكورتين، إضافةً إلى انتصارات سهلة نسبياً في ولايات أركنساس ومينيسوتا ومين وأوكلاهوما وفرجينيا ويوتا وفيرمونت، لم ينغّصها سوى تسجيل «تمرّد انتخابي» عبر التصويت بـ»غير ملتزم»، كما جرى في ولايات ألاباما وأيوا وكارولينا الشمالية وتينيسي وماساشوستس وكولورادو، فضلاً عن خسارته في مقاطعة ساموا، الواقعة في جنوب المحيط الهادئ، أمام منافسه الديموقراطي، رجل الأعمال جيسون بالمر، الذي جاءت حصته من المندوبين 51. إزاء هذه المعطيات الانتخابية، أشار موقع «ذا هيل» إلى أن مشهد «الثلاثاء الكبير» تمخّض عن مجموعة فائزين، في طليعتهم ترامب وبايدن، إلى جانب الناخبين الديموقراطيين المؤيدين للفلسطينيين، الذين رفعوا الصوت مجدّداً ضد الإدارة الحالية، وكذلك أبناء مقاطعة ساموا الأميركية الذين تسبّبوا بإلحاق الهزيمة الوحيدة ببايدن خلال جولة التصويت الأخيرة.

«ليلة سقوط هايلي»: الجمهوريون «يبايعون» ترامب؟
منذ اللحظة الأولى للإعلان عن النتائج، التي عكست مدى سطوة ترامب على قواعد وكوادر الحزب الجمهوري، أوحى المشهد بخروج هايلي، من الناحية العملية، من «الرئاسي»، وتنازلها لمصلحة خصمها الذي شغلت تحت إدارته منصب مندوبة بلادها لدى الأمم المتحدة، وهو ما تأكد لاحقاً مع إعلانها الانسحاب من الانتخابات التمهيدية للجمهوريين، وتمنّيها «التوفيق» لخصمها. من جهته، وصف ترامب، في خطاب ألقاه من مقرّ إقامته في فلوريدا، فوزه على هايلي بـ»المذهل»، مهاجماً في الوقت نفسه سياسات بايدن الذي وصفه بـ»أسوأ رئيس»، وخصوصاً في ملفّ الهجرة. ويرى محلّلون أنه لا يزال من المبكر الجزم بالتبعات المترتّبة على خروج هايلي من السباق، وما إذا كان انسحابها يمهّد لاحتمال انضمامها مستقبلاً إلى الجناح المتشدّد داخل الحزب الجمهوري، المؤيّد لترامب، أو أنها ستمضي في تمايزها عن الرئيس السابق، أسوة بقاعدة وازنة من الجمهوريين المناهضين له، ممَّن لا يزالون على موقفهم المعارض لانتخاب ترامب، حتى في حال فوزه بترشيح الحزب، إلى جانب تمسُّكها بالقيم التقليدية للحزب الجمهوري، وخاصة تلك المتعلّقة بضرورة اضطلاع أميركا بـ»دورها الريادي» على الصعيد الدولي، علماً أنها لطالما قدّمت نفسها كـ»أفضل فرصة لتجاوز (إرث) الرئيس السابق في عدد من القضايا، في طليعتها تلك المتصلة بالسياسة الخارجية».
سُجّل «تمرّد انتخابي» عبر التصويت بـ«غير ملتزم»، في ولايات ألاباما وأيوا وكارولينا الشمالية وتينيسي وماساشوستس وكولورادو


وما استرعى الانتباه، هو ما ذهبت إليه الناطقة الرسمية باسم حملة هايلي، أوليفيا بيريس كوباس، حين صرّحت بأن انتخابات «الثلاثاء الكبير» أَظهرت أن «الحزب الجمهوري هو أبعد ما يكون عن الوحدة»، مشيرة إلى أن «لدى الناخبين مخاوف جدّية في شأن ولاية رئاسية أخرى لدونالد ترامب». وأثار كلام كوباس تكهنات حول إمكانية استغلال الديموقراطيين للانقسامات المتفاقمة داخل الحزب الجمهوري، لتعزيز كتلتهم التصويتية في الانتخابات القادمة، على وقع تغييرات جذرية باتت تشوب البرنامج السياسي للجمهوريين في ظلّ ترامب، والانقسامات الحادّة في التوجهات السياسية لمحازبيه، وإنْ كان بايدن بدوره لا يتمتّع بشعبية كبيرة لدى الجمهوريين المستقلّين، والمعارضين لترامب، والذين لا تتعدّى نسبتهم الـ 40% داخل الحزب. ويتساوق ذلك مع تواري شخصيات جمهورية «تقليدية» عن المشهد السياسي، على رأسهم ميتش ماكونيل، المحسوب تاريخياً على «جناح الريغانية» لمصلحة شخصيات محسوبة على «جناح الترامبية»، على غرار رئيس مجلس النواب مايك جونسون. ورأت شبكة «سي إن إن»، إزاء ما تقدم، أن نتائج «الثلاثاء الكبير» تعكس هيمنة ترامب على الحزب الجمهوري، ولا سيما أن السواد الأعظم من قادة الحزب وبرلمانييه رفض تأييد ترشيح هايلي، مشدّدة على أن تلك النتائج تشي بأن الرئيس السابق بات يحظى الآن بولاء تام من معظم أعضاء الحزب.

«غزة»: الصوت الأقوى في وجه بايدن
بدوره، علّق الرئيس الأميركي على نتائج الانتخابات، مهاجماً خصمه الجمهوري لأنه «عازم على تدمير الديموقراطية الأميركية»، «وهو بصدد قول أو فعل أيّ شيء للوصول إلى السلطة». وإذا كانت نتائج تمهيديات الديموقراطيين أكدت المؤكد حول أرجحية فوز بايدن بترشيح الحزب الديموقراطي، إلا أنها أظهرت استياء نسبة كبيرة من ناخبي الحزب، من موقف إدارة الأخير الداعم لإسرائيل في حربها على غزة. وبحسب محلّلين أميركيين، فقد أَظهرت تلك النتائج أن «أكبر تهديد لبايدن إنّما يأتي من جانب محازبيه المناهضين للحرب»، مستدلّين على ذلك بوصول المدّ الاحتجاجي على سياساته حيال الحرب، إلى سبع ولايات، حيث وصلت أعداد مَن وضعوا علامة «غير ملتزم» في بطاقات الاقتراع إلى قرابة 250 ألف ناخب، من بينهم نحو 100 ألف ناخب في ولاية ميشيغان، إضافة إلى 50 ألفاً في ماساتشوستس (9% من الأصوات الديموقراطية في الولاية)، وعدد مماثل من ناخبي الحزب في ولاية مينيسوتا، فضلاً عن أكثر من 87 ألفاً في كارولينا الشمالية (13% من إجمالي أصوات الناخبين الديموقراطيين فيها)، فيما بلغت نسبة مَن صوّتوا بـ»غير ملتزم» في ولاية ألاباما نحو 6%، و4% و8% في ولايتًي أيوا وتينيسي على التوالي. وفي معرض تعليقه على حملة المقاطعة لبايدن، قال حاكم ولاية مينيسوتا، تيم فالز، لشبكة «سي إن إن»، إن رسالة الناخبين «واضحة» في هذا الخصوص، مضيفاً: «إنهم يعتقدون أن هذا وضع لا يطاق». ولفت إلى أنّ «باستطاعتنا (كأميركيين) فعل المزيد لتدارك الوضع في الأراضي المحتلة»، معرباً عن اعتقاده بأن «الرئيس يلقي آذاناً صاغية لهذا الأمر».