المقعد الأمامي يجاوِر النافذة، وهذا، بالمبدأ، سبب كافٍ ليعتليه الركاب. باستثناء المقعد الذي أجلس عليه، فجميع المقاعد شاغرة، وعلى ما يبدو لم يحجز أحد أيّ مقعد. كسوفٌ حصيفٌ في الخارج يكاد يحجب الرؤية، يُزيغ الناظر، يوهمه أن (تلك) البناية ليست عمراناً بل غسالة كهربائية ضخمة. الرواق المظلم -كما يظهر- على يميني لا يخفي رعب الرحلة، ومع مرور الوقت: سينبسط اللون الأسود، سيزداد الجوّ قتامةً، سيغطي الظلّ الوجه كاملاً، مجرد التفكير بالأمر يصيبني بالدوار... تبّاً! إن المساحة هذه مشبّعة بالشجن، تهيّج أظافر اليد المتعرّقة لحكّ الرأس، وغرس الظفر باللحم، وتمزيق الجلد، فمن الأفضل إغضاء العين.
( تصميم: فرانسوا الدويهي)

الكرسي أمامي جامد لا يتحرك. كأن مصيره مُحدد ببقائه كرسيّاً جامداً لا يتحرك. لا نسمة هواء تزحزح ثباته، لا هزّة أرضية قادرة على زعزعة استقامته، ولا أوراق الاقتراع تنهي شغوره. هذا الكرسيّ اللعين يقلقني، ثم لم هو موجود إن لم يشغره أحد؟
من المقدّر أن الكرسيّ في المقدمة، هناك على يمين السائق، يعود إلى رئيس الجمهورية، لكن لا أحد يعرف اسمه لأن- السائق حتى- لا أحد يعرف مواصفاته (هل يحمل صندوقاً «صندوق النقد» أم بندقية صيد؟). ومن المقدّر أيضاً، أن المقاعد الخلفية تنتمي إلى «رفاقي الأوغاد»؛ من تلك المقاعد ينبع الهزء البذيء والضحك الصاخب، والتخطيط لتظاهرات وتخريب لن يحدثا، لكن لا أصدقاء لي لأن الثورة أخفقت واللوم يقع عليّ.
يمضي الباص ولا ينتظر أحداً لأن المصائر وليدة الارتحال حتى ولو كان الترحال يشترط الظلمة أو يتطلب العبور فيها. دائماً ما يكون العدم نقطة الانطلاق. الجنين يقذف من (كهف) الرحم، وهذه المقدمة تكتب في عتمة الليل. يمكننا تفسير خلو الباص من الذاهبين على أنه إيحاء من شأنه أن يكشف لنا عن مآل اليوم، عن بعض المصائر. وعلى قاعدة أن مصير الغد مرهون بما يُقبِل عليه اليوم، يبقى أن اليوم هو ما كان عليه مصير الأمس. ولأن القاعدة لا تشذّ، تبدو مصائر اليوم، بمعظمها، في رحاب التضعضع والفراغ. لا علاقة للمقاعد الشاغرة بهذا الأمر فحسب، فالإشارات حول الأزمنة القاحلة دامغة. هذا الذي يسعده الركود فيتكوّر على نفسه وينتفخ كغدة سرطانية تتضخم لتهتك كل ما يقابلها، وذلك الذي يسيل لعابه كلما قرأ نصاً عن القهوة والحليب، وبدلاً من التلذذ به وتجرّعه، يتحسّس مسدسه ويتهيأ للتصويب. ومع هذا، يبقى هنالك من يبحث عن مصيره تفتيشاً حثيثاً وتنقيباً عميقاً، ابتكاراً جديداً أو استعادةً لبريقٍ قد أطفأه الزمن، ليجعل منه نجمةً تضيء مسار غده. سنرى في هذا العدد، حكايات لمصائر متنوّعة ومتعددة، تنطلق من السياسة ولا تنتهي عند الضحك، فليزدحم هذا الباص بالركاب.