ابن عائلة مسلمة هاجرت من الهند إلى بريطانيا، الأب عمل كساعي بريد والأم عملت في الميكانيكا، ولد المخرج آصف كاباديا. عاش كاباديا حياته على الهامش، وعاش هامشيته ضمن أقليّة. اختار آصف كاباديا أن يصنع أفلاماً تحاكي قصصاً قاتمة، وتصور أبطالاً غير أسوياء؛ هم الغرباء في عالمهم، والغربة هي غربة روح عن محيطها. فأبطاله هم دوماً على حافة الانهيار، وليسوا أبطالاً تقليديين، بل أبطالاً اختاروا أن يقاتلوا على طريقتهم ضد نظام ما، وهذا ما يبرره قائلاً: «أنا مهتم بالدراما والشخصيات الشيّقة والقصص، تعجبني فكرة أنك تعتقد أنك تعرف هذا الشخص، ولكن بعد ذلك، أخبرك أنا بأنك لا تعرفه!». ما جذب آصف كاباديا إلى شخصيّات أفلامه يعود إلى تماهيه معهم، وأيضاً، إلى الحسّ المشترك الذي ربطه معم: هي الهوية، الأصل الواحد الذين ينتسبون إليه. لذلك ليس تعريف كاباديا حول صناعة السينما في المملكة المتحدة التي تضم رجالاً أثرياء بيض بغريبٍ. فهو يعلم أن المسيطرين على الإنتاج السينمائي لا يشبهونه بشيء، فهؤلاء قدموا من مدارس خاصة، من «أكسفورد» أو «كامبريدج»، وغالباً ما يروون قصصاً عن أنفسهم، لذلك فغالباً ما تشاهد عدداً وافراً من البرامج التليفزيونية التي تكون من صناعتهم، تركّز على حيوات الملوك والملكات والأثرياء.
«آيمي واينهاوس»

اختار آصف كاباديا الانعطاف عن المسار واتخذ لنفسه، ولأبطاله، سينما خاصّة. في ثلاثيته: «آيمي» (2015)، و«مارادونا» (2019) و«سينا» (2010) يهدي آصف كاباديا أعماله السينمائية لكل من يهتم بالسقوط والمأساة الكامنين وراء ضجيج الشهرة والنجاح والعبقريّة. أثبت كاباديا في ثلاثيّته أن الأشرطة المنسيّة منذ زمن طويل، يمكن تحويلها إلى ذهب سينمائي إذا تم التعامل معها بشكل صحيح، ليصنع نهجه وهويّة أعماله الوثائقية الخاصّة به وحده.
الأمر كان ثورياً نظراً إلى الحدود التي تفصل بين الفيلمين الوثائقي والدرامي، فكانت إحدى مناورات تلك الحدود خلق نمط «الدوكيو دراما» حيث يقوم أشخاص بإعادة تجسيد الشخصيات وتمثيل أحداث الرواية، فتتاح مساحة للتمثيل والأداء الدرامي المؤثر، أو إضفاء لمسات ميلودرامية على أحداث بعينها. حاول آصف كاباديا في أفلامه أن يخلق نمطاً جديداً خاصاً به، يردم من خلاله تلك القوالب الدرامية والتسجيلية والدوكيودرامية. هكذا صنع سحر أفلامه، بتظهيره حياة الإنسان وأحداثها المؤرشفة بتلقائية من خلال الكاميرا الرقمية الخفيفة التي نحملها في أعياد الميلاد والمصيف والسهرات لنأسر بها اللحظة في سجن الذكرى. من خلال تلك اللقطات وذلك الأرشيف الواسع، جعل كاباديا من شخصيّاته أبطالاً لسيرتهم الذاتية مرة أخرى وكأنهم يعيدون تمثيلها بشكل روائي، وليس عبر سرد تسجيلي.
في حفلات «الأوسكار»، دائماً ما يجلس صنّاع الأفلام الوثائقيّة في الخلف، أكان على الكراسي، أو في اهتمامات المشاهدين، واهتمام اللجان بذاتها. هذا أمر يحتّمه أسلوب البناء في الفيلم الوثائقي الذي لا يُعطي للسرد أي متعة في حد ذاتها. في الكثير من الأحيان يكون الوثائقي عبارة عن تصوير مجموعة من الرؤوس الناطقة التي تقول ما حدث في يوم ما، في مكان ما كأنه استجواب.

«دييغو مارادونا»

جلب كاباديا الجماهير إلى صالات السينما من أجل أفلامه، فحقّقت ثلاثيّته في البوكس أوفيس ما يقرب من ستين مليون دولاراً، وهو رقم مهول لصانع أفلام وثائقية. يرى كاباديا أنّ سرّ نجاحه يكمن في التخلّص من الاتكال على «الرؤوس الناطقة» (talking heads)، وهذا ما يساعده على طمس الخطوط الفاصلة بين الوثائقي والدراما الطبيعية. وبدلاً من ذلك، بدلاً من الاستماع إلى حكايات الجد والعم والصديق، قرّر المخرج وفريق عمله البحث عن أكبر قدر ممكن من المقاطع والصور في حياة الشخصية، وبلورة تلك المقابلات في كولاج واسع وانتقائي. تلك اللقطات الأرشيفية والمقابلات تعني أننا لا نسمع كثيراً ما حدث في الماضي، بقدر ما نراه يحدث أمام أعيننا، إنه أمر يتعلّق بمهارة كاباديا في أن يضفي على قصص بائدة، طابعاً من الفورية والحميمية تجعلها أكثر صعوبة وتعقيداً في مأساتها، التي حدثت من قبل، ولكنك تشعر أنها تحدث من جديد وتحاول إنقاذها. ليست المشاهد الأرشيفية في أفلام كاباديا ممتعة لناحية الصورة البصرية، فهي مجموعة من اللقطات التي تعود إلى أزمنة مختلفة، تخضع وتشير إلى إمكانات تطوّر الكاميرا الرقمية بحد ذاتها. ففي فيلم «مارادونا» نجد لقطات من حياته في الستينيّات حين كان طفلاً بالأبيض والأسود ذات جودة ضعيفة، وحياة بطل سباق السيارات البرازيلي أرتون سينا تنقلنا إلى مرحلة أخرى من التطور التقني للكاميرا الرقمية خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، ووصولاً إلى المغنية البريطانيّة الراحلة آيمي واينهاوس في جيل الألفية والحداثة الفائقة.
كانت تلك المشكلة الأكبر التي تواجه كاباديا الذي تحتل الصورة وجماليّتها ثقلاً كبيراً في أفلامه الروائية التي قدمها مثل «علي ونينو» حتى آخر أفلامه «المخلوق». ويقول: «على طول الطريق، تركت سعيي إلى التفاصيل المرئية يذهب، ووثقت أن عاطفة اللحظة مع آيمي وسينا ومارادونا كانت أكثر أهمية. إن وظيفتي جعل الجمهور يرتاح ولا يهتم بجودة الصورة». تلك الرؤية لما يصنع، هي ما أتاحت لمشاهدي أفلامه الانغماس الكامل في حقيقة أنهم يشاهدون كائناً حقيقيّاً على الشاشة، وأن القصة التي يتمّ تصويرها حدثت بالفعل. أسلوب يُحدث تأثيراً عاطفياً أعمق بكثير، لأن هؤلاء الناس لا يكذبون، لقد التقطت لهم تلك الصور من علمهم بأنها يوماً ستشهد على قصة حياتهم في فيلم.
الشهادة لها الكثير من التأثير على السرد في أفلام كاباديا، الشهادة من عصرها، والشهادة بعد وفاة الشخصية أو انزوائها. في «مارادونا» تضعنا شهادة أحد جماهير نابولي في هالة الشخصية التي سيفكّكها ويشرحها الفيلم، يقول: «في نابولي، يمكنك أن تخطئ بحق الرب، ولكن لا تسول لك نفسك أن تذكر مارادونا بسوء». والشهادة تأتي من الموضوع نفسه أيضاً، حيث إن الفيلم يدور حول فهم هذا الفرد الذي نرى مأساته، لذاته.
مارادونا يتكلم عن مارادونا، وآيمي تحكي لنا مشكلات حياتها، وأرتون سينا يخبرنا أحلامه، وليس هذا فقط ما تمثله الشهادة بالنسبة إلى أفلام كاباديا، فلقد استبدل كاباديا الرؤوس الناطقة، بأصوات ناطقة، وهذا ما يجعل أفلاكه كتحقيقات في ديناميات الشهرة. حقيقة أن الكثير مما يحيط بهذه اللقطات المعروضة هو آراء وملاحظات الآخرين حول سينا الحقيقي وآيمي الحقيقية ومارادونا، فأنت تسمع من الأشخاص الذين أمضوا وقتاً في محيط تلك الشخصيات، وشهدوا المأساة عن قرب، وعملوا معها، لدرجة أن المشاهد قد يعتقد بأن هؤلاء النجوم كانوا بعيدين عن أعين الجمهور.

«أرتون سينّا»

في بداية فيلم «سينا»، أشار مدير فريق «ماكلارين» في الفورمولا وان رون دينيس إلى أنه: «ما كان واضحاً في مسيرة أرتون المبكرة هو سرعته وتفانيه، لكن في النهاية، ما كانت تبحث عنه تلك المسيرة هو العقل». وفي فيلم «آيمي»، تقول عازفة البيانو إن: «لديها واحدة من أكثر العلاقات نقاءً مع الموسيقى، كأنها علاقة حب، جنس محموم، كما لو كانت بحاجة إلى الموسيقى، كما لو كانت شخصاً وستموت من أجلها». إن تلك الشهادات تهدف إلى وصف هواجس تفوق الكلمات، ولا يمكن تحديدها من قبل شخص لا يختبرها بذاته، وهذا جوهر أفلام كاباديا، تقريبنا، نحن الجمهور وراء الشاشة، إلى تجربة غير ملموسة من حياة هؤلاء النجوم، فما تبقّى لنا من سينا سباقاته، وما تبقى لنا من آيمي أغانيها، ولمسات مارادونا الساحرة للكرة هي تركته للعالم، لكن هناك ما هو أعمق من ذلك!
في فيلم «سينا» هناك العديد من اللقطات التي نراها لرأسه في قمرة القيادة خلال سباقاته، تلك اللقطات ضرورية للوصول إلى عقليّة الفوز. إن سرد قصة حياته المهنية من خلال إظهار كيف تحمله موهبته إلى ما هو أبعد من منافسته، مع لقطات من منظور الشخص ذاته لسباقاته وانتصاراته، يكفي لإحضارنا إلى رأسه، تتسارع سيارته عبر الفيلم بالسرعة التي صعد بها إلى مستوى شهرته الهائل، وإلى مأساته.
كاباديا في الأساس مخرج لأفلام روائية ميلودرامية، وكدارس للسينما كان مجاله إخراج الخيال العلمي، ولم يكن مهووساً أو شغوفاً في أي مرحلة أثناء دراسته باتجاه الفيلم التسجيلي، لذلك حينما اتجه إلى صناعة هذا النوع وجدناه يصنع أفلاماً وثائقية ولكنها ذات روح سينمائية روائية. يرى كاباديا أن «سينا» بالنسبة إليه كان فيلم أكشن، و«آيمي» كانت مسرحية غنائية موسيقية، أما «مارادونا» فهو فيلم العصابات الذي هرب من عالم فرانسيس فورد كوبولا. هكذا يرى أن صناعة الأفلام الوثائقية يجب أن تشتمل على مجموعة واسعة من الأنواع من أجل إنعاشها وجعلها أكثر قرباً من الجماهير.
أعطى كاباديا في أفلامه مساحة أخرى للشخصيات الذين هم في محيط الأبطال، والتي شكلت جزءاً من مأساتهم، كما في نهاية شريط «سينا»، حين نسمع صوت آلان بروست المتهدج الباكي، بعدما رأيناه طيلة الفيلم وقد وُضع في موضع الحاقد على سينا الذي يريد تدميره. ولكن لمن يعرف قصة ذلك العداء في ساحات الفورمولا، ولكنه لا يعرف أن لتلك القصة بعد وفاة سينا المأساوية، تكملة، فآلان بروست هو الذي يدير «مؤسسة سينّا الخيريّة» لتعليم الأطفال في البرازيل، وقد كان أوّل الحاضرين في جنازة سينا بدموعه وكأنه والده، إنها أفلام تحوي فرصة للتطهير كذلك.
ما يسحرنا في أفلام كاباديا هو أن تلك الصور التي تتشابك لتسرد قصة، مألوفة جدّاً حيث يمتلكها الجمهور بالفعل، من حفلات موسيقية وسباقات وألعاب ومقابلات وراء الكواليس، ولقطات صريحة لحياتهم، لكن الحميمية في أفلامه تقوم بدمج كل ذلك في سياق وتسلسل يُمكّن الجمهور من فهم انقسام حياتهم الخاصة والعامة، وكيف أن لهذا الانقسام تأثيراً حقيقياً على الطريقة التي ينتقلون بها في حياتهم المهنية ويعرفون أنفسهم.