بصدد نشر أحد فصول مخطوطة روايتي التي أعمل عليها منذ ست سنوات، وفيها طرَف من «أباحة» اللغة العربية، ففكرت أن أرفق الفصل بتعليق تحذيري يستمد انطلاقته من عالم الأفلام لكنه ينتهي إلى عالم كرة القدم؛ سأكتب لا «+18» ولا «+21» بل «+90».كان غرضي أن أصيّد عصفورين بتعليق واحد طريف، من ناحية: احذروا، هذه لغة مكشوفة في الطريق إليكم، ستقرأون فيها كلمات بذيئة مثل «المضاجعة»، وللمضاجعة مفردة أخرى رديفة لها توازيها في المعنى، عبارة مباشرة أكثر، نستخدمها في كلامنا العامّي، تبدأ بالنون وتنتهي بالكاف، وهي متأصلة في لغتنا العربية حيث عرفها ابن منظور في لسان العرب، لذلك فقد وضعنا كلمة مضاجعة بين قوسين في سياقنا هذا لكي نعوّض أثر المرادف العاميّ لها، ومن ناحية أخرى يعرف مشجعو كرة القدم متعة الأدرينالين الذي يجلبه تسجيل الأهداف في هذه الثواني الإضافية من عمر أي مباراة، بدون أي ارتباط بين إحراز الأهداف و«المضاجعة» إلا طرافة تحذير «بلاس تسعين» («+90»). لكني تراجعت، وقاتل الله الصوابية السياسية، أحياناً، التي تتعامل مع النكتة بروح جرّاح بارد.

(تصميم: محمود عاطف)

لكن الطرافة - وسيأتي الكلام عليها لاحقاً - ليست مدخلي الرئيسي هنا، إنما الحديث بالأساس عن اللغة المكشوفة، اللغة العارية، المعروفة في العامية المصرية باللغة «الأبيحة». والمثير في أمر هذه الطبعة من اللغة أنها وعلى خلاف أوصافها العديدة التي تنعتها بالظهور والوضوح بل والفجاجة، فإنها لغة مضروب عليها ستار من نار وأخلاق حديدية، أقلّه في استخدامها الأدبي أو الاعتراف بطعمها الحِرّيف اللاذع. اللغة المكشوفة في الحقيقة مغطّاة. اللغة العارية فُرض عليها دثار من الأخلاق نفاها إلى عتمة الحواري وأوكار اللصوص الفقراء. يسرق الحكام فتسبههم بأنهم أبناء عاهرات، فيتهمك الناس بسوء الأدب. مع أن الأولى أن يضحكوا معك على عجزكم جميعاً، هذا دون أن ندخل في مشكل تنهرنا فيه الصوابية السياسية وهي تمنعنا أن نقول «بنات هوى» لنستخدم بدلاً منها «عاملات جنس»، وهكذا يصير السباب صعباً كما الفكاهة، وكلاهما مرهون في وجوده بالأساس لعفوية «الأباحة» وزلة اللسان المكشوف.
وفي ظني أن الفكاهة هي السبيل الأمثل للتعرف إلى جوّانيات شخص ما، ولذلك ليس غريباً أن ترتبط الفكاهة بالكلام العاري. فلا تجتمع الجهامة والكلام المكشوف على لسان أو في لسان، ولا يحتجّ هنا بالسباب والشتم لأنها لحظات تأقيت، هذا إلى اعتبار الفروق بين الجهامة والغضب. وليس معنى هذا أن لا قيمة للاستتار، بل قد يكون المطلوب هو الاستتار نفسه، وبدونه لا تكون الطرافة.
في مذكراته عن منفاه في مارسيليا، يكتب بيرم التونسي ناعياً على بعض الشباب – العربي فيما أذكر – أنه يقف على نواصي الشوارع بلا عمل، ويده اليسرى في جيب سرواله تعبث بما تعبث؛ مفهوم بالطبع في ماذا تعبث، ولولا هذا، لولا الغطاء الذي سربل اللغة هنا لما تحققت طرافة بيرم. ولو حاولنا أن نقول الكلام نفسه بالعامية المصرية مثلاً لكان في متناولنا: يلعب في حاجاته، في أشيائه، بل وحتى في «بتاعه».
وصاحب هذه المادة، وهو يجيد فن الخط العربي أيضاً، حوّل عنوان أحدث مسلسلات المخرج المصري خالد يوسف «سرّه الباتع» - و«الرجل» معروف بغزواته الذكورية الفجة - إلى «سر البتاع». وعلى ما يبدو أن هذا العري اللغوي كان السبيل لمسخرة الإنتاج الدرامي لصاحبه، بل ومرمغة ذكوريته وتسليعه لأجساد ممثلات أعماله.
الحقيقة أن هذه اللغة المكشوفة، الشوارعية إن شئنا، قد تكون تعبيداً لطريق الفضيلة، لا العكس. في الثورة المصرية، ورغم بؤس الشعارات التي كانت مرفوعة في الميدان، أقصد اللافتات الفردية التي ودّ أصحابها أن تكون طريفة، مثلاً: «إرحل إيدي وجعتني»، «إرحل مراتي عايزة تولد»، «إرحل عايز أحلق»، وما شابه، لكن فيما بعدها أتاح الفضاء الإلكتروني مساحة أوسع من التجريب بحثاً عن «فضائل» الحقوق. هناك شعار صنعه أحدهم ووضعه فوق رأس حسني مبارك في صورة شهيرة له، بعدما خُلع، وكتب عليها «فقدناك شعباً»، وهو لا يقصد طبعاً الفقد. فعلها اللبنانيون كذلك في تظاهراتهم قبل سنوات، فاستبدل أحدهم في لافتة كتب عليها «نايب الشعب»، بأن وضع شرطة على مقطع «يب» ليضع مكانه «يك».
لكن ليست المحافظة الأخلاقية وحدها هي ما يخشى منها على الكلام المكشوف. هناك مكالمة مشهورة مسربة، في يوم الثامن والعشرين من يناير عام 2011 أثناء تظاهرات الثورة المصرية، بين أحد أفراد الشرطة المصرية ورئيسه، حين أعلمه عبر اللاسلكي: «ده كده الشعب ركب يا فندم»، يقصد أن المتظاهرين سيطروا على الشوارع. أعجبتني الجملة فكتبتها بالخط العربي، وطلبها مني أحد أصدقائي، وعلّقها فوق مكتبه في مكان عمله، وقد كان أميناً لمكتبة إحدى مؤسسات الفن المعاصر. بعد أيام حين كنت أزوره اكتشفت اختفاء الورقة، وعندما سألته أجابني أن إحدى رفيقات العمل انتزعتها غاضبة، معلنة أن فعل الركوب (والمقصود: «المضاجعة») ليس وصمة لتستخدم في المجال السياسي. نعم، هكذا يموت المجاز العاري، ليس على مذبح الأخلاقية المحافظة فقط، وإنما كذلك على مذبح الصوابية السياسية.