إنّ تشريح عمليّة الكتابة بوصفها فعلاً مدفوعاً بعللٍ كثيرة لا يمكن حصرها، يبدو فعلاً لا طائل منه، الكتابة كآليّة إنتاج ومهنة وصنعة داخلة في سوق العمل، لها ما لها وعليها ما عليها. أما البحث والقبض على ذلك الشقّ الحياتي لها، ولصاحبها كذلك، أي الجزء الجوهري الإنسانيّ الكامن خلفها وخلف المشتغل فيها، فهو أيضاً يبدو صعباً.لقد احتدمت الصراعات وما تزال محتدمة حول أصعب مهنة في العالم. إنها الصيرورة التاريخيّة منذ وُجِدَت المهنة وُوِجدَت إلى جانبها مهنٌ أخرى تتّصل فيها وتحرّكها. مع ذلك، ففي الأستطيقا محاولات دؤوبة للفصل بين الصنعة والفن وللتمييز بينهما، منه ما فعله جان برتليمي كما حاول أيضاً بول فاليري في مناقشاته حول الخلق الفني وتأملات في الفن، أن يقف عند هذه المشقّة، مشقّة التأليف، إلى حدٍ ما.
في محاولة القبض على الحياتيّ من الكتابة، ثمة أجوبة كثيرة على أسئلة كثيرة. منها: لماذا يوجد كتّابٌ بالأصل؟ هل من أجل تحقيق تلك الآليّة الدفاعيّة التي رفضها صاحبنا فرويد وأحبّها صاحب اللاشعور الجمعي، يونغ من بعده؟ وملخصها أن فرداً يختنق من وجوده في جماعة، فيستخدم آليّة دفاعيّة اسمها التسامي، ومن ثم تحدث تلك النقلة العجيبة التي اسمها «تمايز الفرد». هكذا بكل بساطة؟

(رينيه غوريو، «علامة تعجب»)

لماذا يكتب الناس؟ أمن أجل إثبات أن جيلهم قادر على المرمغة في أوحال التاريخ وهفواته وخلوده وطموحاته، وأنه يستطيع الكتابة، كما أجاب ماركيز مرّة بما يشبه هذا المعنى، أم لأنهم في «تمايزهم الفرديّ» يشعرون أنهم مخوّلون وقادرون تماماً على إمساك «الحقيقة» من أذنيها وتوبيخها وإيضاحها لمَن تبقّى من بشرٍ على المعمورة، أم - وببساطة شديدة - لتحقيق خلودٍ ما يمكن القبض عليه من خلال هذه العمليّة الشاقّة والمحيّرة والتي يتطلّب تفكيكها مجلّدات، المسمّاة بالكتابة، أم لأنها خلقٌ من نوعٍ آخر، أم لأنهم سمعوا من طبيب نفسي أنّ كلّ كاتب في هذه الدنيا مُصاب باضطراب ثنائي القطب فأحبّوا التسمية وأحبّوا هذا التمايز المُضاف إلى التمايز، فبادروا؟
يكتب الناس لأنهم يكتبون. هذه هي الإجابة البسيطة، القريبة مما أجابه الشكسبيريون حول اللغز التاريخي مَن كتب مسرحيات شكسبير: إن الذي كتب مسرحيات شكسبير هو شكسبير نفسه. بالتالي يكتب الناس لأنهم يكتبون فحسب.
لكن الحساسيّة التي تقبع خلف هذا الفعل الخلّاب والخلّبي، الفتّاك والمُفرِح، المُحيي والمميت في آن، هي التي لا يمكن وصفها ولا تفسيرها. حساسيّة ما هو ذاتيّ وما هو موضوعيّ. يقول النقّاد ومدرّسو الأدب، ومن بينهم أستاذنا مصطفى عبّود، إن تاريخ الأدب بمجمله وبكلّ تيّاراته وحركاته ومذاهبه ومدارسه إنما كان مقسوماً بين هذين المصطلحين: الذاتي والموضوعي. يكتب الكاتب مرّة وأنفه مركز العالم، ثم يكتب مرّة وأنفه خارج العالم. يكتب مرّة والأرض تدور حوله، ويكتب مرّة وهو يدور حولها.
كلّ ما سبق ينسحب على الكتابة بوصفها عمليّة إبداعيّة إنتاجيّة، يحسّ فيها إنسانٌ ما بتمايزه فينتج أدباً، أياً يكن هذا الأدب. إلا أن هذه المقالة كانت يجب أن تكون -وهكذا كان المقترح للمحرّر الناجع بول مخلوف المُتعَب، والمتحرّك طوال ستة أيام كي يخرج هذا الملحق المقالاتي في اليوم السابع، والتحرير كذلك تأليفٌ وخلق وإعادة تكوين وتدوير -عن كتابة المقالة.
مقالة شخصيّة بشكلٍ بحت عن كتابة المقالة. بسخرية وحدّية تصل حدّ الإيلام. ليس ثمّة أسهل من ذلك! ولكن تلك الحساسيّة التي سبق ذكرها تدخّلت، وجعلتُ أكتب وأنفي مركز العالم، لا خارج العالم، وأبيتُ أن تكون كتابة المقالة من «مجاورات الأدب» أو على هوامشه، وألّا تدخل في تاريخه. أبيتُ أن تكون شيئاً هامشياً، أو صنعة، إنما داخلة في صلب عمليّة الخلق اللذيذة، أو الحفر المعرفي بوصفه استحضاراً وإعادة خلق، بإصرار على أنّ كتّاب المقالات يشاركون كل كتّاب العالم تلك المعرفة والحسّ الجمعيّ المبعثر في الفضاء الكونيّ. إنهم كتّاب كذلك، والمقالة عندهم تساوي القصة والرواية والمسرحية والقصيدة والملحمة.
إنّ الكتابة لملحقٍ ثقافي، أو منصة، أو مدوّنة، تدخل كذلك في إطار تلك العمليّة الفرديّة الممتعة التي اسمها كتابة الأدب، وعملية الخلق، ولا تقلّ طموحات كاتبها عن طموحات كاتب قصة أو رواية أو مسرحيّة. إنّ تحقيق الخلود، بالنسبة إلى الناس جميعاً، واحد: أن يتذكّرهم باقي الناس بعد موتهم، لا لفترةٍ ضئيلة تمضي، بل إلى نهاية التاريخ.
بوب ديلان ليس أحسن من كاتب المقالة في شيء. من أجل القول السابق، استعنتُ بمحرّكات البحث أفتّش عن كاتبٍ واحد حاز نوبل في الأدب لأنه كتب مقالات «من أجل كذا وكذا فعله في مقالاته التي كتبها لملحق؛ إنّما» إلى آخر الديباجة التي تضعها الأكاديمية مرفقةً إلى اسم الكاتب كلّ عام، ولم أجد شيئاً. ذلك حتّى قبل عصر صحافة السوشال ميديا والقلق والديدلاين. لماذا لم يفز كاتب مقالات من قبل بنوبل، مثلما فاز بوب ديلان؟
إن الإحساس بالعجز واللاجدوى الذي تولّده هذه الصنعة الشاقّة، أو النشاط الأدبيّ المدعو بكتابة المقال، في بعض الأحيان، يبدو لا شفاء منه. وثاني أسباب أن أنفي صار مركز العالم لا خارجه، أنني رفضتُ - بكلّ جوارحي - الالتزام بطبيعة المقترح ومخطّط المقال الذي قدمتُه، إنما يجب أن يكون خلقاً يخرج في وقته المناسب، كما يُخلَق أي عمل أدبي. (يذهب برتليمي إلى عقد مقارنة بين الصنعة والفن عبر تطرقه لموضوعتي التخطيط والتنفيذ، وهذا ما لن أفعله، لأنني سوف أخرج عن الموضوع، موضوع كتابة المقالة).
إذن، لا. هذا ما لن تحصلوا عليه. سوف أكتب ككاتبٍ حر، عن كلّ شيء ولا شيء، ولن أكتب عن شيءٍ جاء في المخطط الذي قدمته. لا ديدلاين بعد اليوم، ولا بوب ديلان أيضاً.
لن تصل مقالة في موعدها المحدد. هذا شعار المرحلة، والديدلاين إلى الجحيم! لأنّ اسمه لوحده مرعب ومخيف وقاتل ويجعل الجسد الإنسانيّ ينزف عرقاً.
سوف أسلّم هذه المقالة بعد سنة أو سنتين، بل خمس سنين، طمعاً في مزيدٍ من الحريّة. لكن لماذا؟ قلتُ لنفسي، ثم أدركتُ أنني بالغت، وشرعتُ بالكتابة: كتابة مقالة عن كتابة المقالة، وعن عدم كتابتها.
يبدو الأمر هيّناً، على خُطا وخطأ سارتر وتولستوي وتودوروف وابن قتيبة الدينوري وبضع عشرات غيرهم في كتبٍ تتساءل أو تقرّ أنها تحمل تعريفاً للأدب، سوف نسأل: ما هي المقالة؟ ونقول: افعل كذا ولا تفعل ذاك، الهرم المقلوب، مقدمة شيّقة وعرض باستفاضة وخاتمة ملخّصة، وغير هذه من النصائح المملّة أو الكورسات الرديئة عبر الإنترنت.
وقد وصلني لحظة كتابة هذه المقالة فرصة عمل «كاتب محتوى» (ولا أعرف ما الذي يعنيه ذلك) شرط معرفتي قواعد الـ«Seo» التي لا فرق، كما أعتقد، بينها وبين الـ«cia» والـ«fbi»، وغير ذلك من حروفٍ ثلاثة تختصر أشياء كثيرة. وقد أحسستُ بشيءٍ من مهانة: إنّ عملنا، نحن الذين نكتب المقال، ليس من المجاورات، وليس هامشياً ولا على سطح الإبداع الأدبيّ، وليس القائم به آلة، يوضع في مؤخرتها عملة نقديّة فتعمل، أو يُملى عليها فتكتب، أو يُقرأ عليها فتدوّن. ليس من الضروري أن يكون أنف صاحبها مركز العالم، لكنه على الأقل، فليكن داخله لا خارجه.
يوقد فيلم The whale لآرنوفسكي مثل هذه النار في صدر كلّ كاتب مقال. اتّخذ من هذا الشيء صنعة وفناً ومسيرة حياة له. يروي فيلم «The whale» قصة تشارلي، كاتب ومدرّس لكتابة المقال، وزنه 275 كلغ، يحتضر، وتنقذه دائماً مقالة صادقة كتبتها ابنته حينما كانت صغيرة عن رواية «موبي ديك».
على قِصر المقالة التي كتبتها الابنة، إلا أنها تمكّنت من إنقاذ إنسان على مدى سنوات، ليس لأنّ ابنته هي التي كتبتها، بل لأنّ في المقالة ما يعادل أثر أيّ عملٍ أدبي، رواية أو قصة أو مسرحية، ويتعامل تشارلي معها على هذا النحو أيضاً. إنها أدب، ملحمة أو قصة أو رواية أو مسرحية، لها - ولصاحبها - الحقّ المشروع في الطموح إلى الخلود، أو نوبل عن كتابة المقال، لأنّ بوب ديلان ليس أحسن من كاتب المقالة في شيء.
«في الكتاب المدهش «موبي ديك» للمؤلف هيرمان ميلفل، يروي المؤلف قصته عن التواجد في البحر. في الجزء الأول من كتابه يدعو المؤلف نفسه «إسماعيل»، في بلدة ساحلية صغيرة، وهو يتشارك سريراً مع رجلٍ يدعى «كويكويك». المؤلف و«كويكويك» يذهبان إلى الكنيسة ولاحقاً ينطلقان على سفينة يرأسها قرصان يدعى «إيهاب»، تنقصه ساق، ويريد قتل الحوت بشدة، يدعى «موبي ديك» وهو أبيض. يصادف القرصان «إيهاب» أثناء الكتاب الكثير من المشاق. وُضِعت حياته بأكملها حول قتل حوتٍ محدد. أعتقد أنّ هذا حزين لأنّ الحوت ليس لديه أيّ عواطف، ولا يعرف كم يريد «إيهاب» قتله. هو مجرد حيوان كبير مسكين، وأشعر بالسوء لـ«إيهاب» أيضاً، لأنه يعتقد أنّ حياته ستكون أفضل إذا كان بوسعه أن يقتل هذا الحوت فقط، لكن في الواقع، لن يساعده هذا مطلقاً. كنت حزينة جداً لهذا الكتاب، وشعرت بكثير من العواطف للشخصيات. وشعرت بالحزن أكثر، عندما قرأت الفصول المملّة التي كانت مجرد وصف للحيتان. لأنني عرفت أنّ المؤلف كان يحاول فقط إنقاذنا من قصته الحزينة الخاصة، فقط لفترة قصيرة». قبل ذلك يرسل تشارلي، مُدرِّس كتابة المقال، رسالة إلى طلّابه يجيء في آخرها: «فقط اكتبوا لي شيئاً صادقاً».
تمتدّ هذه الجملة لتستوعب كلّ الدراسات والنظريات والمقولات حول «الحقيقة» و«الصدق» في الكتابة، ولا سيما في كتابة الأدب. والمقالة، كما تحاول هذه المقالة قوله، من الأدب، وليس من مجاوراته أو على سطحه أو هوامشه. وهذه المقالة عن كتابة المقالة تدّعي أنها صادقة وحقيقيّة، كما يدّعي صاحبها أنه كتب شيئاً صادقاً، إلا أنه يحاول أيضاً إنقاذ نفسه، والآخرين، من قصّة كتّاب المقالة الحزينة الخاصة، في مقالة قصيرة، ولفترة قصيرة.