بينما تقع الأرض تحت عين معرفة الإنسان الكلّية ويصبح العالم الكوني المجهول نسبياً مثيراً للفضول ومصدراً للقلق، يبقى سؤال «هل الإنسان هو الكائن الواعي الوحيد الذي يأهل كوكباً؟» معلّقاً. يخطر لي هذا، بينما أجري حواراً افتراضياً مبتوراً في مخيّلتي مع إنسان قَبَليّ، غير عقلاني، حيث كانت الأرض بأكملها واقعة في عداد مجهولاته، مثلما نجهل اليوم وجود حيوات ممكنة في كواكب أخرى قد تكون مأهولة. أتساءل: «هل تعلم أنّنا اكتشفنا كل ما يتعلق بجغرافيا هذا الكوكب وأننا مُسَيَّرون في الوقت الذي نكتشف فيها هول حريتنا التي تصنعها الإرادة الواعية، نظّمنا أنفسنا جيداً واتّسعت نطاقات اقتتالنا لتشمل الفضاء، حدثت حربان عالميتان وآلاف حروب الوكالة الباردة والساخنة، ابتدعنا أنظمة تُوقِف الاقتتال نخالفها في كل يوم، اكتشفنا العلوم والسياسة والفنون والموسيقى واعتنقنا الأديان ومارسنا الفكر والتنظير والفلسفة وتوزعنا في معسكرات شرقية وغربية اشتراكية ورأسمالية وعَبَرنا في المُعاصر والحداثي وما بعد الحداثي، في علوم النطق والتأريخ وتدرَّجنا في مستوى السّلم والرفاه، في عوالم أولية وثانوية وثالثيّة تكون الأخيرة هي ساحة الاقتسام والتجارب لتحقيق الرفاه الأقصى لإنسان العالم الأول. منحنا بعضاً من ذكائنا للآلة، ونعيش رعب أن نكون منحناها بعضاً من وحشيّتنا فتتمرّد علينا وتفنينا. نعيش أيضاً حفلات إلهاء كبرى، مفاعلات مجهولة تتحكّم في الكوارث الطبيعية، وانتشار الأوبئة المطوّرة جينياً وغير ذلك من إلهاء يدار من قُمرة قيادة كوكبنا المجهولة أيضاً. اخترعنا القانون وأقمنا بموجبه مجتمعاً دولياً ومجلساً للأمم ليبحث بلا جدوى عن النجاعة من الاقتتال، قنَّنا عطفنا وتراحمنا الإنساني في كوانتومات طاقيّة، محاولين إجراء موازنةٍ في الخلل وردم العجز الإنساني الذي تبعثه شرورنا المنفلتة».كباحثة درست القانون حيث أعيش في العالم الثالث، بحثت عن فرص عمل تتقاطع مع مجال بحثي. لم يكن أمامي سوى سوق العمل الإنساني الذي كان الأكثر نجاعة من الناحية المادية في بلد الحرب المنهار. فالعمل الإنساني في بلدان العالم الثالث أصبح طبقة من العمالة المتفرّدة، ومن العاملين، الذين، في أغلبهم شبان وشابات في مقتبل العمر، تثير حميّتهم الاصطلاحات ويخضعون لتدريبات ويكتسبون المهارات والخبرات ويتعاملون بـ«تعاطف» مع الفئات «المستهدفة». وعلى الرغم من الافتقار إلى القدرة على مواءمة الاصطلاح والفكر المستورَدين للعمل فيهما في مجتمعات كمجتمعات العالم الثالث، وذلك أن الفكرة والمصطلح يتعاملان مع حالات النجاة من النزاعات، من بابٍ أَولى وهو التعاطف مع الضحية بإغفال الخصوصية التاريخية والزمانية والديموغرافية للضحايا من جهةٍ، وبتجاهل تامّ لخصوصية النزاع وبيئاته وما تحتكم إليه هذه البيئات وما يعيقها في النجاة دون غيرها، وخصوصاً أنها مستنزفة إلى الحدّ الذي لا تعرف فيه استنهاض نفسها من جهةٍ أخرى.
قد يكون مستعصياً، إن لم يكن مستحيلاً، أن تحظى بفرصة في حقل العمل الإنساني في بلدان العالم الثالث إن لم يكن لديك مهارة أن تُرفَض تسعاً وتسعين مرة قبل أن تقبل مرة، في حال لم تكن من حاشية ورعية وأبناء «أحدٍ ما». في حين تأتي ثقافة التطوع في بلدان العالم الأولي لتكرس أنماط التعامل الإنساني مع حالات الضعف والهشاشة الإنسانية، تصير في بلدان العالم الثالث مطيّة اليائس الذي يحاول التنصّب عنوة عن الوساطة وقسوة شروط التوظيف.
سألتني سيدة خمسينية: ما هو مجال عملك؟ قلت لها: أعمل في العمل الإنساني. أجابت: «آه، فطر الدم، أنتم تنبتون حيث يجري الدم».
ظلت عبارتها تتردد في ذهني عند كل مفصل أتخيّل فيه تصنيع الضحايا، تصنيع الاستجابة، تصنيع المستجيبين، تصنيع المأساة، تمويلها، تسليعها، عرضها، بيعها، التسويق لها، شراءها، تصديرها، استيرادها، استيراد قوالب لحفظها، استيراد أنماط بمقياس «ستاندرد» للاستجابة لها، وتمويل الاستجابة. سوق عالمي للإنسان تنحلّ فيه خاصية الزمان والمكان، وتعمّم فيه الاصطلاحات والشعارات والنداءات دون اكتراث كيف سيتمّ تجييرها وتحريكها، وليس من الأولوية إحسان استخدامها، كما أنه لا يسوء عدمه في شيء. تبدو إذاً العملية بأسرها أشبه بالهدم والبناء معاً؛ يتم فيها تدمير المدمّر وترميم المشوّه بصورة أقلّ أصالة وأكثر غرابة وإغفالاً للخصوصية. فضرورات كمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي مثلاً، الحالة التي لا يوجد خلاف على احتياجها في ظل حدوث نزاعات وكوراث أو عدمها، بات يكسوها بروتوكولات شكلية، فالنوع الاجتماعي يُقصد به الدور الاجتماعي للجندر (أي للجنس مذكر أو مؤنث) واستخدام مصطلح الدور الاجتماعي يشير في العلوم السوسيولوجية إلى الدور الذي تقوم به المرأة في معرض أدائها الوظيفي لأدوراها التي تلعب فيها خصوصيتها الجندرية العامل الأساس. تظهر الاستجابة أحياناً لقضايا بهذه الأهمية بتعاليم مختلّة في سياق الزمان والمكان الذي يتم أحياناً طرحها فيه، فلماذا تهتم أسرة هجّرتها الحرب ولا تمتلك قوت يومها بكسر الصورة النمطية بأن «لا تُلبِس» مولودتها لوناً زهرياً إذا كانت أنثى، ولوناً أزرق لمولودها إذا كان ذكراً. أما مفهومات التمكين و«بناء القدرات» فتبدو أيضاً محاولات يائسة وغير مجدية عندما تلقي بإلهاماتها ووحيها على الإنسان في خيم اللجوء، بحيث تحاول هذه المفاهيم تعليمه اصطياد السمكة بدلاً من إعطائه إياها، في حين أن وجوده، أي حيثما هو، لا وجود للصرف الصحي ولا حتى لماءٍ صالحٍ للشرب. وكلّ هذا عدا عن الكليشيهات التي تأتي في أحيان كثيرة بسبب توقيتها ومكانها الخاطئَين، لتصبّ الزيت في النار ونتجاهل ظروف البيئة وأسباب النزاع الأعمق ونتائجه الكبرى على المدى البعيد، والأغرب من هذا هو تجاهلها لخصوصية الإنسان بعد النزاع والكارثة.
هل يحتاج الإنسان بعد التشرّد وفقدان الأحبّة وضياع الوجهة إلى أن تتعاطف معه عبر بيعه الوهم؟ أم أن تتعاطف معه بتزويده الشعارات، هل عليك أن تعلّمه «التعاطف» ليبحث عن ذات قديمة لم تعد موجودة بعد الصدمة، أم ليمدّ جسراً إلى الآخر يعجز عن مدّه إلى نفسه أولاً، أم أنك تعلّمه التعاطف لأنه، باعتقادك، قد فقد التعاطف أو سيفقده وقد يفتقده إلى الأبد؟ وماذا عن نبش الآلام التي لا تهدأ، ونكء الجراح التي لا تتوقف عن النزف بالتنظير والحذلقة. ما المهارة التي ينتفع بها من لا سقف فوقه، ولا طعام في بيته، إذا أمليتَ عليه محاضرات في «المواطنة» بينما تخنقه حالة العوز أو التشرد؟ وما الحلول التي يقدمها له «التنظير حول بناء السلام» في ذروة ضياعه وحرمانه، وكيف يكون استعداده النفسي والذهني لتلقّي الاملاءات حول تجنب «إصدار الأحكام المسبقة» وهو يفتقد أحد أفراد أسرته، أو معظمهم، أو جميعهم، في تلك اللحظة التي يتلقى فيها الوعظ وتُطلب منه المحاكمة العقلية السليمة.
هل تأتي مقولتي لتكون نزوعاً ساذجاً نحو اللاشيء البديل، في حين أنها ليست مناشدةً لأحد؟ هي في كل حال لا تحمّل العاملين المُتعَبين ومنهم «الإنسانيون»، بمن فيهم أنا، مسؤوليّة مواءمة الفعل الإنساني في الزمان والمكان حين لا يملكون الخيار. وبما أنّ مقولتي لا تريد أن تصير صرخة ضميرية لتزعق في آذان الطواغيت والمبشّرين، تصير صوتاً خافتاً يمضي في جدول العالم الذي يبدو أنه تحوّل إلى سوق للعرض والبيع، على شاكلة السوبرماركت.