حين استفاق «غريغور سامسا» ذات صباح من أحلام مزعجة، وجد نفسه وقد تحوّل في فراشه إلى حشرة ضخمة. تحوّل إلى صرصار (صرصور)، وانقضى الأمر.تُحدِث الجملة الأولى من قصة كافكا «التحول» (الانمساخ في ترجمات أخرى) رعباً هائلاً. تنطوي الجملة على رعبٍ ودهشة، وكابوسية وفجيعة، تنطوي كذلك على عقاب وحرمان وخلاص في آن معاً. إنّ التحوّل، الانمساخ، الموجود منذ الجملة الأولى، هو شيءٌ ممكن حدوثه في حياة كلّ واحدٍ منا. كلمة «die verwandlung» الألمانية، تعني بشكل عام: التحوّل، الانتقال بشكلٍ كلّي من حالة إلى أخرى، ولا تعني، بحالٍ من الأحوال، المسخ، أي الشخص الذي جرى مسخه، وإنما تعني فعل الانمساخ نفسه، فعل التحوّل. وفي الجملة الأولى من قصة كافكا، يستخدم كابوسنا الأدبي اسم الفاعل «verwandelt»، الذي يعني: متحوّل، أي الذي تحوّل، أو قد تحوّل. و«غريغور سامسا» في «التحوّل»، مثله مثل جيورج بندمان في قصة «الحكم»، كلاهما يرمزان إلى كافكا نفسه. يفسّر المفسرون ذلك عادةً بسبب عدد الأحرف الواحد في كافكا و«سامسا» والحرفين الصوتيين الموجودين في الموضع نفسه من الاسم. في دراسة فيلهلم إمريش عن كافكا، وهي أول دراسة كبيرة بالألمانية انتزعت كافكا من مخالب التفسيرات الغيبية وأنزلته من سماوات الأديان إلى أرض الواقع ووجود الإنسان على الأرض، يقول صاحب «رمزية فاوست» في فصله من الدراسة «الحيوان الغريب و(ذات) الإنسان، الاستلاب الحديث و(قانونه)». إن كافكا الشاب لم يكن يفهم تحت كلمة قانون شيئاً آخر سوى سلطة الأحداث الجماعية المهولة، هذه السلطة البعيدة عن إرادة وقصد الفرد، والتي تقصي البشر عن بعضهم. وكان كافكا نفسه يكره وظيفته المهنية لأنها تعيقه عن الكتابة، وفي رسائله إلى فيليس (كانت خطيبته) يشكو من العمل في المكتب: المكتب رعب، وإنني عاجز كلياً عن التفاهم مع المكتب. هذه السلطة، إذاً، تُمثَّل هنا من خلال العمل، ومن خلال الوجود في «المكتب»، الذي يفصل الإنسان إلى مجالين، مجال العمل والمجال الشخصي.


بطلٌ آخر لكافكا (اسم فني آخر لكافكا أيضاً)، اسمه «إدوارد رابان»، ورد في باكورة الشعر الكافكاوي «استعدادات زفاف في الريف»، يقول: إنّ المرء يعمل في المكتب بشكل مبالغ فيه، حتى إنه يصبح متعباً أكثر من اللازم. لكن المرء لا يحصل من خلال أي عمل على حق بأن يُعامَل بحب من قبل الجميع، لا بل إنّ المرء يصبح وحيداً، غريباً كلياً، ومجرد موضع فضول. وطالما تقول المرء بدلاً من أنا، يكون الأمر لا شيء ويمكن للمرء أن يتلو هذه القصة، لكن حالما تعترف لنفسك أنك هو هذا الشخص، فإنك تُطعن حقاً وترتاع.
عندما يعي رابان هذا الفرق بين «المرء» و«أنا»، ويتساءل عن ذاته، يشعر أنه مطعون حقاً ويرتاع. إذ علامَ يمكن لأناه أن تقوم، عندما يجب عليه أن يضحّي بكل شيء في سبيل العمل الوظيفي، وكل شيء تابع لهذا العمل؟ لم يصور كافكا سيادة الوجود الوظيفي هذا في «المحاكمة»، و«القلعة»، و«التحول» فقط، بل بدأ بتصويرها منذ نصه الشعري الأولي سالف الذكر، وبطله «رابان». التحول إلى حشرة عند كافكا لم يبدأ عند «غريغور سامسا»، بل سبقه «رابان» إلى ذلك، لا تمظهراً، أي لم يتمظهر «رابان» أو يتحول إلى حشرة، إلا في حالة حلم: مستلقياً في الفراش أتخذ شكل الجُعَل أو خنفس أيار، كما أظن... التحول الأول عند كافكا، يحرر (يعتق) من سيادة المرء المخطِّط، من سيادة العمل الوظيفي. في «التحول» شيء شبيه. يقول إمريش إن «غريغور سامسا» مُعلَّق مثل «رابان» بين العمل والأنا، لكنه يتأرجح بين المجالين. «سامسا»، وقد تحوّل إلى حشرة، يظل ملتصقاً في حيّز المرء. لأنه لا يقبل هذا التحول داخلياً بأي حال من الأحوال، ولا يستطيع أن يراه إلا كظاهرة سلبية تعيق عمله اليومي الذي يندبه، ويستشعر الاستلاب وفقدان العلاقات الودية. عند كافكا، الباطن (الداخل الإنساني) نفسه مُستلَب، ونفس الإنسان غريبة عن ذاتها. أدرك كافكا أنّ قانون استلاب الإنسان العصري يظل خافياً على هذا الإنسان نفسه. الإنسان يقع فريسة القانون المجهول، قانون «المرء» الآخر، إلى درجة لا يعود بعدها يعرف شيئاً عن ذاته الخاصة به أو حياته الداخلية. «بعد مضي فترة على تحوّل «غريغور سامسا»، ظلّت تتراءى في أفكاره صور مدير المؤسسة وكبير الموظفين».
بعيداً عن تفسير إمريش للقصة تحت مجهر الاستلاب الحديث (في زمنه) وقانونه، وبعيداً عن التفسيرات التي تقارب «سامسا» مع كافكا نفسه في تحليل وقائع حياته الأسرية (ولا سيما علاقته بأبيه)، فإنّ القصة تبقى مفتوحة على قراءات غير محدودة. بل يمكن القول إنّ قراءة إمريش، المحصورة في زمنها، هي قراءة قاصرة اليوم، عام 2023، والعالَم سوق استهلاك كبير، وسيادة الوجود الوظيفي والمكتب ورئيس المؤسسة وكبير الموظفين شيء مختلف تماماً، وأكثر رعباً، ويسبّب خزياً أكبر، وشعوراً بالعار أعمق. إنّ حساسيّة الزمن الراهن نفسها هي حساسيّة مختلفة، صحيح أنّ العالم يزداد قسوة، مع ذلك فإنه يزداد هشاشة في الآن نفسه. الخزي، العار، الانكماش، الاختباء، كل ذلك يحيل إلى الصرصار، بشكلٍ ما، أو إلى الإنسان الذي يتحوّل، بطريقة ما، ونتيجة لإحساس مما سبق، إلى صرصار. إنّ الموروث الشعبي والأدبي، المنطوق والمكتوب، مليء بهذه الإحالات التي لا سبيل إلى ذكرها، مع ذلك، على الطرف الآخر، فإنّ اختيار الصرصار، كبطلٍ للأدب، ليس اختياراً اعتباطياً على الإطلاق، على الرغم من أنّ معظم هذه الاختيارات تمّت قبل كشف الدراسات العلميّة عن معلومات وقدرات هائلة يمتلكها هذا الكائن المقزّز والمثير للاشمئزاز. الوصف الأخير، بحدِّ ذاته، هو سببٌ لاختيار الصرصار كبطل للأدب. في رواية دوستويفسكي «الإنسان الصرصار» (في ترجمات أخرى: «في قبوين مذكرات من تحت الأرض» كما يُقال إنها ألهمت كافكا من أجل قصته «التحوّل») التي كتبها رداً على رواية «ما العمل»؟ الحافلة بنظرية التفاؤل العقلاني لنيكولاي تشرنشفسكي، في هذه الرواية، الإنسان الصرصار عند دوستويفسكي ليس له اسم، ويبدأ بالقول «أنا إنسان مريض، حقود، ممقوت». إن موضوع رواية الإنسان الصرصار، يبدو كما لو أنه نفسه الذي يتردد في زمن موضوعه الرئيسي هو هيمنة الأنانية القائمة على المنفعة الذاتية، والمثالية المفرطة غير العملية للإصلاح السياسي والاجتماعي، وسيطرة أسواق المال الغربية، واستحواذ التكنولوجيا على الحقيقة، وفقاً لـب. ب. س. بيير الذي كتب مقدمة لترجمة جديدة للرواية. يعيش بطل دوستويفسكي في سرداب تحت الأرض، لأنّ الرجل عاش اغتراباً وتهميشاً وضموراً وعاش كما يرغب الآخرون، فانسحب، كما الصرصار، إلى مكان مجهول كالسرداب. ومثلها رواية راوي حاج تحت اسم «الصرصور» التي ينقل فيها تجربته الانعزالية، وهي أكثر الأعمال الأدبية، تقريباً، مباشرة في توظيفها للصرصور ودلالات استخداماته. إن الإنسان الصرصار يظهر، في الغالب، لأنه حين يعجز الإنسان عن التعبير بإمكاناته الإنسانيّة التي يمتلكها، على اختلافها، يسترجع أو يخلق أو يستعيد بشكلٍ ما جزءاً من الحالة الحيوانية التي داخله أو التي عايشها أو راقبها، وتكون الاستعادة أو الخلق إما عن طريق الصوت أحياناً (ثمة أصوات حيوانية كثيرة يستخدمها الإنسان غالباً في حالات عجزه لا سبيل إلى ذكرها) أو عن طريق الحركة، وربما عن طريق التماهي، حيث يصبح هو والحيوان شيئاً واحداً. ذلك عندما يستنفد الإنسان كل إمكاناته وقدراته وشروط تعبيره.
وصرصار كافكا، «غريغوري سامسا» الذي يختبئ تحت أريكة، ويلف نفسه بملاءة، ويحاول الحفاظ على لوحة في الجدار عبر تغطيتها بجسده، والذي تعلق في ظهره تفاحة رماها أبوه عليه، والذي تقول أخته «يجب أن نحاول التخلص منه»، هو إحساسنا بالخزي، وبالعار، ورغبتنا بالهرب، بالانكماش، بالعيش في سرداب، تحت الأرض، وبالزحف على ورقة شجر، وبالعيش في حفرة داخل جدار. صرصار كافكا، «غريغوري سامسا»، مرة أخرى، هو موقف إنساني من الحياة نفسها، وهو موقف وجودي. إنّ الحيلة التي مارستها أسرة الإنسان الذي كانه «سامسا»، والخديعة التي خدعه إياها زمنه، دفعتاه كي يصبح صرصاراً.
هذا التحول، يحدث اليوم، عام 2023، في العالم الذي صار سوقاً كبيراً، والذي صار كلّه مكتباً، وبشره الذين صاروا كلّهم مديري مؤسسات وكبيري موظفين، يحدث عند الإحساس بالطرد، واللاانتماء، وعند عدم القبول في فرصة عمل. إنّ المواقف «العصرية» كلها، من هذا النوع، وبكل ما تسببه من خزي وخجل ورغبات بالهرب، تحوّل الذات، لا «المرء»، إلى صرصار. يؤكد ذلك أن «التحوّل» الذي يورده كافكا في زمنه، منذ الجملة الأولى، يجيء ببساطة تامة، كحدث عادي يومي ومعتاد، ولا يحتاج سبباً خاصاً أو ضخماً ليقع، ولا تبريراً ولا تفسيراً.
شيء آخر جدير بالذكر، يؤكد أنّ التحول برمته ليس تمظهراً جسمانياً تماماً، إنما هو تحول داخلي إلى صرصار، تحول شعوري وباطني داخل الإنسان نفسه، بعد أن خرج العالم عن سياقه الطبيعي، دفع بالذات إلى أن تتحول، وتنكمش، وتختل، وتحس بالخزي، هو ما كتبه كافكا في رسالة للناشر عام 1915: «خطر ببالي أنه (رسام صورة الغلاف) قد يرغب في رسم الحشرة نفسها. هذا لا، رجاءً هذا لا! وأنا لا أريد الحدّ من دائرة سلطته، وإنما أريد أن أرجو انطلاقاً من معرفتي الأفضل بشكل طبيعي للقصة، أنّ الحشرة لا يمكن رسمها، كما أنه لا يمكن إظهارها حتى من بُعد». إنّ الصرصار، الحشرة التي صارها «غريغوري سامسا»، تجسّد ما وراء تصوّرنا، الواعي واللاواعي. يقول إمريش. وهي الإلغاء المطلق لما يسمى العالم «الإنساني» رغم أنها ليست سوى الإنسان «نفسه».
تكتب إلكه هايدنرايش في نصٍّ لها عن التحوّل في «الكتاب كمجلة»:
«صباح اليوم، يوم ماطر مظلم، كنت راقدة في فراشي وكنت قد تحولت إلى جُعل. كنت أرقد على الظهر وأمدد الساقين اللتين تدعوان إلى الرثاء. كل شيء كان يؤلمني. كنت مصفّحة وحسب. ولم يكن لديّ رغبة في أن أنهض وأكون آلة تؤدي عملها بطريقة ما. «غريغوري سامسا»، هذا هو زوجي، فكرت. جُعلي. لكننا نعلم فعلاً أية نهاية بائسة ينتهي الأمر عندما يكون المرء مجرد جُعل ولا يريد أن يؤدي عمله كآلة - في الختام يلقون المرء في المزبلة».