يخبرنا تاريخ البشرية أن أول وصف اتّسم به الإنسان جاء قديماً مع أرسطو حينما نعته بالـ«حيوان العاقل»، ذلك أن ملكة العقل، والتي تعني النطق أيضاً، هي ما يميز العاقل عن غير العاقل. في الفترة «القديمة» نفسها، نرى أن ما نطق به هذا «الحيوان العاقل»، إن على الصعيد الشفهي كما جاء في الأساطير حيث تمظهرت الآلهة على شكل كائنات يمتزج بها البشري مع الحيواني في الهيئة والملمح، أو على الصعيد الحِرَفي كما عكسته النقوش في الكهوف حيث القصص والشخصيات تغوص في مناخ حيواني مفرط (بعض النقوش أشبه بكوميك وهي سبّاقة آلاف السنين على أعمال هاشم رسلان). يمدّنا هذا التاريخ إذاً، بخيوطٍ تكشف لنا عن علاقةٍ وطيدة ربطت الإنسان، «الحيوان العاقل»، بغريمه، ذلك «غير العاقل».

لكن إذا كان الحيوان قديماً يعني جسداً كبيراً، له أنياب حادة، ومستعدّ في أيّ لحظة على الانقضاض والقتل، ولا يترك وراءه سوى ظلال الخوف، والتهديد، والارتعاد، فقد انتصرت مخيلة الإنسان في التاريخ المعاصر على ذلك الوحش «غير العاقل» حتى باتت هذه اللاعقلانية، المتمثّلة بالحيوان، مقبوضاً عليها، وبالتالي على من يمثّلها: الحيوان. هكذا اقتصر وجود الحيوان على امتلاكه، وتدجينه، وعلى توظيف دلالاته -المُعاصرة- باعتباره رمزاً بدائياً همجياً. اليوم، فعدا استحضار الحيوان كشتيمة بغية الذمّ والهجاء، أو التمثّل به في صيحات أو ميولٍ جذرية مليئة بالغرابة ومتطرفة كما فعل رجل من اليابان في الآونة الأخيرة حيث أجرى عملية تجميل لوجهه ليبدو كلباً، نادراً ما نعير اهتماماً لأوجه الشبه التي تجمع الكائن «العاقل» مع الحيوان، حتى ولو استعنّا بالمجاز فإننا ننحو إلى أنسنة الحيوان، وننسى الوجهة الأخرى، والتي أكثر دقّة، أي حيونة الإنسان.
لقد جاء القرن التاسع عشر محمّلاً بالنهضة وبالكثير من الأقفاص التي أسرت في داخلها حيواناتٍ كانت نتيجة «محصول» استعماري، وزجّ في داخلها أبناء «العالم غير المتحضّر»، أصحاب البشرة السوداء على وجه التحديد، حتى تحوّلت المدينة التي عُرضت هذه الأقفاص فيها إلى ما يشبه الغابة الكبيرة، مهما نمّقوا العبارة وقالوا إنها سيرك. من هذا القفص تحديداً، استمدّت الأنظمة طباعها، فحوّلت المجتمع إلى سجنٍ كبير. وللحفاظ على المسجون فعليكَ ضرب العقلنة، وإزاحة الكلام\ النطق جانباً، وتكريس التأتأة، والمأمأة، والقلقلة. بيد أن اللغة بأقصى تجريدها تبقى إشارة صوتية، والصوت مهما كان خافتاً يبقى أثراً إنسانياً له صداه. لذلك، ولأن النطق في النهاية يبقى تعبيراً من الصعب محوه (إن أكثر الأشياء التي تتذكّرها هي أكثر الأشياء تفاهةً)، ولأن المنطوق غالباً ما يكون غير عقلانيّ، خصوصاً أن المؤسسات والأنظمة تعمد إلى ضرب العقلنة وتعويم نقيضها، فها هو الإنسان باعتباره، على الأقل كائناً ناطقاً، يعيش على تقليد الحيوان طوعياً أحياناً ونتيجة أمرٍ أحياناً أخرى، أو في «تغريبه» عبر إعطائه اسم علم مثلاً، وأحياناً يعمد إلى استنساخه، وكل هذا يحيلنا إلى أن هذا «الكائن» (الناطق) ما هو سوى حيوان ناطق.
في هذا العدد ستعرّفنا غنى حنفاوي بالحيوان، ككائن مستقل، وستخبرنا عن «أهميته». سيحضر معنا أيضاً «صرصار» كافكا، و«خنازير» بينك فلويد، والحيوانات الأليفة أي المشاهير الجدد الذين يحتلون فضاء السوشل ميديا، و«موكلي» أو الإنسان الرازح تحت الرأسمالية، وبالفعل، يبدو أننا هذه المرة، أمام أسطورة جديدة قوامها الحيوانات، لكن هذه المرة نحياها، لم يحن وقت تناقلِها بعد، على أمل أن يكون هذا العدد تدويناً بسيطاً لها.